ما يصنع الحدث هذه الأيام في الأوساط الشعبية والشبكات الاجتماعية ليس فقط انتخاب ترامب رئيسا لولايات المتحدة الأمريكية من جديد، ولا الحكم المخيف والمفجع ضد الزميل حميد المهداوي، ولا رفص الحكومة وأغلبيتها البرلمانية الزيادة في الضرائب على شركات من بينها شركة رئيس الحكومة لتوزيع المحروقات… بل هناك مقطع فيديو قصير يتصدّر الاهتمام هذه الأيام ومعه عبارة “كاتغوّتي؟!”.
يتعلّق الأمر، لمن فاتهم هذا المقطع، بطفل يجمع بين الذكاء والبراءة، يردّ على سؤال معلّمته الاستنكاري حول ما إن كان ما خطّته أنامله هو حركة “ضمّة”، ليردّ عليها بتساؤل لا يقل استنكارا، وهو يشير بسبّابته نحو صدره: “كاتغوّتي؟!”.
تراجع الطفل مؤقتا عن تساؤله حين نفت محدّثته أن تكون “غوّتات”، وقالت له إنها تحدّثه “بالشوية”، لكنه بعد حوار قصير حول كيفية رسم الضمّة، عاد ليحتجّ بقوة أكبر على نبرة التوبيخ التي استشعرها بين كلمات معلّمته، مهدّدا إياها بتبليغ la maitresse، حيث يٌفهم من المشهد أن محدّثته مساعدة للمعلّمة، ولم يتراجع إلا بعدما تقبّلت منه محدّثته تنبيهه إلى ضرورة الحديث إليه “بالشوية”.
إلى جانب انتشاره الواسع، أثار المقطع نقاشا كبيرا حول طرق التربية الحديثة، وكيف أن الكائن المغربي لم يعد يقبل الخضوع لمنطق السلطة في معاملته، وراحت الكثير من المقاطع التي تفاعلت مع هذا الطفل، تقارن بين نمط التربية السابق الذي كان يقوم على سلطة الأب المطلقة وهيمنة الكبار على الصغار واللجوء الممنهج إلى العنف بأنواعه كأداة ل”التربية”… وتبيّن من خلال متابعتي الشخصية، أن هناك استحسان عام لسلوك الطفل، وتنويه بالتحوّل الذي يعبّر عنه.
هذا التفاعل يعكس قبولا لمفهوم جديد في التربية، يقوم على احترام مشاعر الأطفال والإنصات لتساؤلاتهم، وهو ما يمكن أن يشير إلى ميل المجتمع نحو تربية تركز على التفاهم والاحترام المتبادل، بدلا من السلطة المطلقة، واستعدادا أكبر لتقبل أساليب تربية تُشجع الأطفال على التعبير عن مشاعرهم، بدلا من قمعها.
الخطاب المرافق للنقاشات التي أثارها هذا المقطع، يحمل جرعة نقد للأساليب التربوية التقليدية، ما يشير إلى رفض المجتمع لبعض الأساليب التقليدية التي تعتمد على الصراخ والترهيب، وتعتبر عدم سؤال الطفل أو الإنصات له أمرا طبيعيا.
هذا الدعم الكبير الذي حضي به سلوك الطفل يعكس بوضوح رغبة الجمهور في الابتعاد عن هذه الأساليب وتفضيل التربية التي تشجع على الحوار. وأكثر ما أثار استحسان الجمهور، هو صورة الطفل الذي يعي ويعبر عن مشاعره بطلاقة، ويشعر بأهمية الاحترام المتبادل.
هذا التغير يعكس تطورا في مفهوم التربية، حيث أصبح الطفل يشعر بحقه في أن يُعامل باحترام ودون ترهيب، وهي قيمة قد تكون غائبة أو أقل وضوحا في أساليب التربية التقليدية.
سؤال “كاتغوّتي؟!” الذي طرحه الطفل، قد يعكس أيضا ثقة أعلى بالنفس لدى الجيل الصاعد، وتشجيعا على التفكير النقدي، بحيث لا يقبل الطفل أي تصرف دون تفسير أو مبرر. وهو تغير يعكس نمطا تربويا حديثا يهتم بتنمية قدرات الأطفال على التفكير بحرية ومساءلة تصرفات الآخرين بلباقة.
كما أبان هذا المقطع أثر وسائل التواصل في رفع الوعي المجتمعي وتسليط الضوء على قضايا مهمة، وتوسيع النقاش حول أهمية تطوير أساليب التواصل داخل الأقسام الدراسية… أي أن هناك رغبة مجتمعية في تبني قيم احترام مشاعر الأطفال وتشجيعهم على التعبير عنها، إلى جانب نقد غير مباشر للأساليب القديمة، مما يعكس توجها نحو تربية عصرية قائمة على الحوار والاحترام المتبادل.
ودون أن نحمّل المقطع أكثر مما يحتمل، فإن استحضار النقاش الكبير الذي أعقب انتشاره يجعلنا أمام مؤشرات تغيير يمسّ ديناميكيات السلطة بين المعلم والتلميذ، وبين الصغير والكبير…
فمع الأجيال السابقة، كانت سلطة المعلم مطلقة، وكان من المعتاد أن يتحمل الطلاب الانتقادات أو الصراخ دون اعتراض، بل منا من سمع والديه يوصيان المعلّم بعبارة “نتا اذبح وأنا نسلخ” بعد تسليمه للمعلّم.
ليأتي سؤال “كاتغوتي؟!” ويعكس تراجعا عن مفهوم السلطة المطلقة هذا، والذي كان يسود في التعليم والمجتمع بشكل عام.
تفاعل الجمهور الإيجابي مع هذا الموقف، يعبر بدوره عن قبول متزايد لفكرة أن السلطة يجب أن تكون مرنة ومحترمة ومتوازنة، بحيث تقوم على الاحترام المتبادل بدلا من الإكراه. وهو ما يشير إلى تطور نحو نموذج علاقات أكثر توازنا بين الأفراد والمؤسسات، بحيث يصبح للضعيف أو الأقل مكانة، صوت مسموع وتأثير.
ينطوي هذا المشهد وما أثاره من تفاعل، على نقد الأساليب التقليدية في إدارة العلاقات الاجتماعية. فتفاعل الجمهور يشير إلى تراجع التأييد للأساليب التقليدية التي تميل إلى فرض الهيمنة والسيطرة، سواء في الأسرة أو في المدرسة أو في المجتمع.
كما يعكس وعيا بأن السلطة ليست مجرد نفوذ مادي، بل تشمل أيضا القدرة على التأثير النفسي والعاطفي، مما يفتح المجال لنقد ممارسات السلطة بشكل أوسع في المجتمع. ويعني ذلك تعزيز دور المحاسبة والمسؤولية الاجتماعية بحيث يمكن للأفراد أن ينتقدوا السلطة، سواء كانت سياسية أو تربوية، دون الشعور بالترهيب أو القمع.
هناك بوادر تطلّع المجتمع المغربي لمستقبل تُبنى فيه العلاقات على أسس متساوية، حيث يمكن لكل فرد –صغيرا أو كبيرا– أن يسهم في الحوار العام دون الشعور بالخوف أو التهميش، وبروز نزعة نحو مجتمع يقوم على الشراكة، حيث تُبنى العلاقات من خلال التفاعل والتفاهم بدلا من التبعية والتسلط… و”الغوات”.