هذا هو المقال السادس ضمن سلسلة مقالات تطرح تصورا وتحليلا وتفكيكا للمشهد السياسي الوطني ولجميع الفاعلين فيه في الماضي والحاضر، وتزعم بأن المخرج من حالة المراوحة ومن المأزق التاريخي الوجودي الذي علقت فيها جميع الأطراف، ملكية ونخبا وأحزابا، هو إبرام تعاقد سياسي تعادلي براجماتي بين الملكية وبين النخبة الوطنية الجديدة، مما سيساعدها على التحرر من معلقات/ مخلفات الماضي المهددة لاستمراريتها، والمعطلة لتطورها البنيوي ولمحاولات تكيفها مع المستجدات الوطنية والدولية حفاظا على وجودها ولو اقتضى الأمر تفويت الحكم لهذه النخبة الوطنية الجديدة والحفاظ بالسيادة والتمثيل الدستوري الرمزي للدولة.
لقد كان المقال الأول بعنوان الملكية ومخاض ولادة جديدة، والثاني الملكية وخيار الممر الثالث الآمن، فيما عنون المقال الثالث بـ الملكية والأحزاب.. والتعاقد الجديد، والمقال الرابع بـ رباعيات الملكية واختبار القدرة على التجديد، والخامس بـ الملكية بين «نخبة فيشي» والنخبة الوطنية الجديدة، مقالات يحكمها تصور فكري وإطار معرفي وسياسي واحد ناظم بينها، في الزمان والمكان، بقصد خلق فرصة سياسية وتاريخية تعيد النخبة الوطنية إلى ساحة المناظرة والصدارة والتدافع والإنتاج المعرفي والقيمي والإنساني وإعادة تأطير الفعل السياسي وفق هذه القيم الوطنية النبيلة بعد أن تم تهريبها من قبل تجار “سياسة البيزنس” والانتهازية الحزبية.
يظن كثير من الناس، عوام وأعيان ونخب، ولأسباب عديدة سنأتي عليها، بأن العيش تحت الاحتلال أفضل منه تحت ملكية متأرجحة في اختياراتها السياسية وأنفع لهم وللبلاد، بزعمهم، ويدفعون في هذا الأمر بالقول إن الملكية تثير الفرقة من حولها ولا تقبل بالقسمة في أي شيء، وتغذي الصراع بين القوى السياسية لصالح العرش ودوامه ورجالاته من ذوي الحظوة، فيما الاحتلال يعمل على توحيد الناس من حوله ولا يحتكر السلطة لوحده، ويفضل أن تكون السلطة التنفيذية المباشرة بيد أعيان ونخب البلاد، ولو صوريا، ويبقى هو الحاكم الفعلي في البلاد من وراء حجاب.
ليس هذا حال القوم ببلادنا، وإنما حال العديد من الشعوب والأعيان والنخب التي لا يعني عندها الوطن شيئا سوى أنه مصدر للاغتناء بأي طريقة كانت وعنوان سكن وجنسية، ولا يحملون مشاعرا ولا وعيا ولا ارتباطا ولا عشقا تجاه الوطن، لذلك لا فرق عندهم بين أن يكونوا تحت حكم ملكي أو قوة استعمارية، فمن يمكنهم من تحقيق مصالحهم يقفون في صفه ويتحالفون معه على حساب دولتهم ووطنهم، وما دام النظام السياسي الحاكم، من وجهة نظرهم، لا يوفر لهم هذه الفرصة، فإنهم يهللون للاستعمار ويرفعون رايته ويفتخرون بثقافته ولغته ونمط حياته وقيمه، ويشكرونه على ما يقدمه للبلاد من مساعدة ومواقف سياسية ودبلوماسية، فيما يعتقدون، بل يتمنون عودته مرة أخرى، كأنه هو الخلاص مما يكابدونه مع حكومتهم ونظامهم السياسي.
مما أثار الانتباه بشأن الوفد المرافق للرئيس ماكرون، وجود شخصيات لا علاقة لها بالوفد الرسمي ولا بمؤسسات الدولة الفرنسية الرسمية، ولم تكن مكلفة بمهام رسمية خلال الزيارة، مغاربة من إنتاج الحماية الفرنسية
تحت عنوان “جريمة الإخلاص”، يقدم لنا الكولونيل أحمد بلمدني بنحيون في هذه السيرة الذاتية، نشرت عام 1987 بفرنسا، باشا أكادير خلال فترة الحماية، وعميل الاستعمار، يقدم تصوره عن “الإخلاص” للوطن، كما يفعل البعض اليوم، حين كان في خدمة الاستعمار وخان شعبه ودولته، بعد أن غادر المغرب هاربا مع فرنسا سنة 1956 ليستقر ويموت هناك، حيث كتب في سيرته: “يعتبرونني خائنا، لماذا؟ لأنني خدمت بشجاعة وتفان المصالح العليا لبلدي أثناء التهدئة وأثناء الإدارة بالتعاون مع سلطات المراقبة الفرنسية. لقد اشتغلت مع الفرنسيين، لكن ذلك كان في مصلحة البلدين”. لقد اعتبر الخيانة والعمالة لفائدة الاستعمار الفرنسي، والوشي بقادة في جيش التحرير والمقاومة تم سجنهم أو نفيهم أو إعدامهم، خاصة مع أحداث “بوغافر” عام 1933، خدمة لصالح المغرب بزعمه. للأسف، لازالت ذريته في مواقع المسؤولية اليوم، والعرق دساس كما قالت العرب.
وهذا ما حصل أيضا مع أهل الجنوب اللبناني الداعمين لجيش العميد أنطوان لحد، عميل الكيان الصهيوني، والذين غادروا لبنان بعد هزيمة وانسحاب الكيان الغاصب من أراضيه في الجنوب عام 2000، وهو ما حصل كذلك مع “الحركيين” الجزائريين من قبل، الذين عملوا في خدمة فرنسا الاستعمارية ضد وطنهم، وعندما حصلت الجزائر على استقلالها عام 1962، اختاروا بإرادتهم أن يرحلوا مع الاستعمار، لعلمهم بأن مصيرا أسودا كان ينتظرهم بعد الاستقلال لا يقل عما لقيه خونة المغرب من باشوات وقواد، حاولي 270، تعاونوا مع الاستعمار، ووقعوا عريضة عزل ونفي السلطان محمد الخامس عام 1953، فواجهوا مصير الموت حرقا فيما سمي بـ “محرقة القياد” أمام المشور الملكي بالرباط عام 1955 عقب عودة السلطان من المنفى وهم يغادرون القصر خلال مناسبة استقبال من قبل السلطان محمد الخامس. “يستطيع جلالته أن يصفح، لكنه لن يخالف الشعب إذا ما رفض أن يصفح”، هكذا أذاع القصر الملكي بيانا صدر عن السلطان محمد الخامس بشأن باشوات وقواد تعاونوا مع الاستعمار وتم إضرام الناس في أجسادهم أحياء أمام باب القصر أمثال الخليفة محمد بغدادي ومحمد المراكشي وعلال العرباوي والفشتالي.
وهذا ما حصل لما دخل المغول بغداد، عاصمة الخلافة العباسية، بعد أن مكنهم الجاسوس الوزير الشيعي محيي الدين بن العلقمي من أسرار الدولة حتى أسقطوها وأعدموا الخليفة المستعصم بالله وجميع أفراد أسرته، وما حصل أيضا مع المارشال هنري فيليب بيتان، رئيس “دولة فيشي” فيما يسمى بالمنطقة الحرة تحت سلطة الألمان، عميل النازية، والذي لقي دعما واسعا من عموم الناس ومن بعض النخب، ولعب دورا في إخضاع فرنسا للمحتل الألماني خلال أعوام 1940-1944، وساهم في إصدار أحكام بالإعدام في حق الكثير من الوطنيين المقاومين، كان من بينهم الجنرال شارل ديغول ورئيس الحكومة ليون بلوم، وشكل ميلشيات، كما فعل التهامي الكلاوي، لقتال المقاومة جنبا إلى جنب مع الجيش الألماني.
إن اختيار هذه الشريحة من المجتمع الانتهازي المهزوم والأعيان الإقطاعيين والبورجوازيين الحضريين الوفاء للاستعمار وخيانة وطنهم ودولتهم ليس موقفا سياسيا ولا قناعة فكرية وثقافية، وإن كان في الأمر جزء من هذا، لكن بسبب عدم استفادتهم من القرب من الملكية ومن عوائدها، وهذه الشريحة تنتمي إلى الطبقة الوسطى، مستلبة ثقافيا وسياسيا، وتفضل العيش على النمط الحضاري الغربي تحت احتلال أجنبي، ظاهرة تعرضت للدراسة والتحليل قديما من قبل علماء الاجتماع الكولونيالي والأنثروبولوجي، وهي علاقة التابع بالمتبوع وانبهار المنهزم الضعيف بالمنتصر القوي. إنها معركة القيم والحضارة والعمران البشري والديني، والصمود في هذه المعركة ومقاومة مغريات ومكر الاستعمار تحتاج لنخبة وطنية متشبعة بقيمها الدينية والوطنية والحضارية، وبشخصية قومية صلبة وعالمة بتاريخ الاستعمار وبتاريخ هويتها الدينية والحضارية والوطنية.
لا نزعم في هذا المقال بأن الاستعمار الفرنسي، أو غيره، يوجد على الحدود أو تحلق طائراته الحربية فوق سماء العاصمة، كما فعلت إسبانيا خلال أزمة جزيرة “ليلى” عام 2000، على الأقل ليس الآن، ولكن جحافل مشروعه الاستيطاني، من الصدر الأعظم محمد المقري إلى المحفل الأكبر، “حكومة فيشي”، بدأت في الاختراق والانتشار منذ سنوات، بل منذ الاستقلال التبعي، عبر المال والأعمال، وتكوين الكوادر في معاهده ومدارسه العليا منذ عقود، ليتم زرعهم في مختلف القطاعات الحيوية والسيادية والاستراتيجية، وعلى رأس مرافق عمومية ومؤسسات دستورية تنفيذية وتشريعية وقضائية، واليوم تظهر بصمته واضحة في “حكومة فيشي” وخريطتها السياسية وتركيبتها الثقافية والقيمية، مما يجسد جليا الاختراق الاستعماري الفرنسي لقطاعات حيوية من بينها التعليم والدبلوماسية والعدل والاقتصاد والمالية والتجارة والاستثمار. هذا هو الجيل الجديد من الاستعمار الناعم غير المباشر، أن تحكم فرنسا عبر أتباعها من أبناء البلد ويتم التحكم فيهم عن بعد من مقر السفارة بالرباط أو من باريس.
هذه الشريحة من أعوان ورجالات فرنسا الذين وصلوا اليوم لمناصب عليا في الدولة واستولوا على أهم القطاعات الاستراتيجية في عالم المال والأعمال، لعبوا دورا مهما في إفشال أي مشروع تنموي أو مبادرة اجتماعية أو حقوقية، حتى التي صدرت عن الملك إذا كانت لا تخدم مصالحهم ومصالح فرنسا
لو عدنا لفترة ما قبل الاحتلال الفرنسي والإسباني للمغرب عام 1912، لدراسة البيئة العامة والأحوال الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية للمغرب، خاصة بعد الوفاة المفاجئة للسلطان الحسن الأول عام 1894، وكان سنه لم يتجاوز 58 سنة، ليدخل البيت العلوي في صراع بين من سيرث العرش بعد وفاة السلطان، وسيزيد من حدة هذا الصراع أطراف من رجالات المخزن والإقامة العامة الاستعمارية لاختيار السلطان الجديد من بين أبنائه الثلاثة، عبد العزيز وعبد الحفيظ ويوسف، ليحسم رجل المخزن القوي الملقب بـ “با حماد”، أحمد بنموسى الشرقي البخاري، من سلالة عبيد جيش البخاري، وله ذرية لازالت تعيش بيننا اليوم، حاجب السلطان الحسن الأول، والصدر الأعظم الجديد، بتنصيب الشاب عبد العزيز ولم يتجاوز سنه 16 سنة، ليدخل المغرب في مرحلة فوضى عامة انفجرت معها ثورات في الشمال والشمال الشرقي وفي الجنوب، وعدم استقرار منصب الملك، ليُعزل السلطان عبد العزيز عام 1908، بعد أن وقع اتفاقية الجزيرة الخضراء عام 1906، وهي مقدمة لاحتلال المغرب، وينصب مكانه شقيقه السلطان عبد الحفيظ، الذي سيوقع اتفاقية الحماية الفرنسية في الثلاثين من مارس 1912، لتسقط سيادة الدولة المغربية واستقلالها ويخضع الشعب المغربي للاحتلال وتضيع حريته وكرامته لعقود، ثم ُيخلع السلطان عبد الحفيظ في نفس السنة، ليُنصب مكانه شقيقه السلطان يوسف، الذي كان طيعا ومسالما للاستعمار الفرنسي إلى أن توفي فجأة عام 1929، ولم يكن قد تجاوز سنه 48 سنة، لتدخل البلاد، مرة أخرى، في مرحلة دسائس القصور ويتدخل رجال المخزن في شخص الصدر الأعظم محمد المقري، والإقامة العامة الفرنسية في شخص ثيودور ستيج، لاختيار السلطان الجديد، محمد الخامس، ولم يكن قد تجاوز 17 سنة، بدل أخيه الأكبر، صاحب الوصية الشرعية، الأمير إدريس.
وستبقى هذه الشريحة المرتبطة بمشروع الاستعمار سواء كان عسكريا مباشرا أو سياسيا واقتصاديا وثقافيا غير مباشر، ستبقى موجودة دائما، ولديها القدرة على التكيف مع كل الأوضاع والقدرة على التسلل في مرافق الدولة، بدعم من فرنسا خلال الاحتلال واليوم، وإذا ما تلقت التوجيه بالتحرك، حتى في وجه الملكية، كما فعلت عام 1953 و1955 في “إيكس ليبان”، وبأسلوب المكر والخداع و”التقية” السياسية، تتحرك لحماية مصالحهما المشتركة الحيوية والاستراتيجية، لذلك، كما قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مفتخرا أمام البرلمان المغربي، حتى لا نقول منتشيا، خلال زيارته الأخيرة، بأن فرنسا هي المستثمر الأجنبي الأول في المغرب وترغب في أن تزيد من تعاونها مع المغرب في المشاريع الكبرى داخل وخارج المغرب، يقصد بذلك إفريقيا، بل تعهد أمام “نواب الأمة” بأن فرنسا ستعمل على الدفاع عن مصالح المغرب في المحافل الدولية، وهذه لغة تمتحي من أدبيات اتفاقية الحماية عام 1912، ومدرسة المارشال هوبير ليوطي الكولونيالية، وخلال حكومتي ضابط الجيش الفرنسي، باشا صفرو، البكاي بن مبارك لهبيل، 1955-1958. للأسف، لازالت ذريته في مواقع رفيعة من المسؤولية حتى اليوم.
ومما أثار الانتباه بشأن الوفد المرافق للرئيس ماكرون، وجود شخصيات لا علاقة لها بالوفد الرسمي ولا بمؤسسات الدولة الفرنسية الرسمية، ولم تكن مكلفة بمهام رسمية خلال الزيارة، مغاربة من إنتاج الحماية الفرنسية، الطاهر بن جلون نموذجا، وفرنسيين يهود من إنتاج الصهيونية العالمية، بنرنار هنري ليفي، وهو نذير شؤم حيثما حل وارتحل منذ الربيع العربي عام 2011، في ليبيا ومصر والعراق وكردستان العراق والسودان ولبنان وسوريا، واليوم جاء للمغرب، فما هي الدلالة التي يحملها وجود هذه الشخصية المعادية لكل ما هو عربي ومسلم ضمن الوفد المرافق لرئيس فرنسا، وكيل عائلة روتشيلد الصهيونية على رأس الدولة الفرنسية؟
هذه الشريحة من أعوان ورجالات فرنسا الذين وصلوا اليوم لمناصب عليا في الدولة واستولوا على أهم القطاعات الاستراتيجية في عالم المال والأعمال، لعبوا دورا مهما في إفشال أي مشروع تنموي أو مبادرة اجتماعية أو حقوقية، حتى التي صدرت عن الملك إذا كانت لا تخدم مصالحهم ومصالح فرنسا، أو ستكلفهم أعباء مالية أو ستخفف من ضنك العيش لدى عموم المغاربة وسترفع من جودة الحياة وبيئة العمل لدى قطاعات مهنية واسعة وتشيع الحرية والكرامة والعدالة بين الناس، مثلما حصل مع المبادرة الوطنية للتنمية البشرية وهيئة الإنصاف والمصالحة واللجنة الوطنية للبرنامج التنموي، ومن قبل مجلس الشباب والمستقبل، بل حتى المشاريع التي جاءت بها حكومة عبد الإله بنكيران، 2012-2016، مثل الدعم الأسري ومشروع قانون الاثراء غير المشروع، مما ساهم في حدة التوتر والاحتقان الاجتماعي ورفع نسبة الإضرابات والاحتجاجات التي شملت جل القطاعات المهنية، خاصة مع تشكيل “حكومة فيشي” في الثامن من سبتمبر 2021.
لقد زادت نسبة الاعتقالات والمحاكمات التعسفية لأسباب تتعلق بحرية الرأي والتعبير مع حكومة “نخبة فيشي”، كأن مهمتها في هذه المرحلة السياسية الحرجة، تتجلى في وضع الملكية، وفي هذا السياق التاريخي والسياسي الذي تمر به البلاد والعالم، أمام غضب الشارع ويظهرها بأنها عاجزة عن تحمل مسؤولياتها الدستورية، كما قال من قبل الصدر الأعظم محمد المقري، رجل فرنسا في عهد السلطان محمد الخامس وأحد الموقعين البارزين على عريضة صهره باشا مراكش التهامي الكلاوي لعزل ونفي السلطان وعائلته، حيث قال: “إن إبعاد محمد بن يوسف هو الوسيلة الوحيدة التي تساعد لصون البلاد من خطر الشقاق واسترجاع النفوذ التقليدي للسلطان، وذلك بإعادة الهدوء والطمأنينة في النفوس، وقد اجتمع المخزن يومه تحت رئاستي وتبين له أن سيدي محمد بن يوسف أصبح لا يستطيع القيام بواجبات الملك المسندة إليه، فتقرر الاعتراف بتوافق الحكومة الفرنسية بسيدي محمد بن مولاي عرفة سلطانا وحيدا شرعيا على المملكة المغربية الشريفة”.
لقد كانت مرحلة ما بعد العزل والنفي مختلفة عن مرحلة ما قبلهما بالنسبة للسلطان محمد الخامس، إذ أدرك بأن التماهي مع سياسات الاستعمار الفرنسي، تحت الضغط والإكراه تارة، وحفاظا على العرش تارة أخرى، كادت أن تضيع ملكه وتبعده عن المقاومة وجيش التحرير والوطنيين
وفي شهادته التي نشرت في سيرته الذاتية، “جريمة الإخلاص”، قال باشا أكادير الكولونيل بنحيون، عميل الاستعمار الفرنسي، بأن لقاء جمعه بالفاطمي بن سليمان في دار المخزن بالرباط يوم 26 أكتوبر 1955، وكان بنسليمان يومها وزيرا أولا بأمر من مجلس حفظة العرش الذي شكلته الحماية الفرنسية قبيل عودة السلطان من المنفى، وحسب تفاهمات “إيكس ليبان”، وأخبره بأن “السلطانين بن عرفة ومحمد الخامس يجب أن يختفيا من المشهد السياسي، وبأن نظام الحماية سيتم تعديله بالشكل الذي سيسمح للمغاربة بأن يتكلفوا بأنفسهم بإدارة شؤون المغرب، لأن المغرب مازال محتاجا إلى دولة أوروبية تأخذ بيده وفرنسا مؤهلة لذلك ونحن في حاجة إليها ونحن سائرون في الطريق”. لقد تأكد مبكرا وحتى اليوم من هم المغاربة الذين يقصدون، إنهم مغاربة الحماية الفرنسية ونخبتها.
إذا كان هؤلاء بعض نماذج نخبة الحماية التي تعاونت مع فرنسا الاستعمارية خلال حقبة الاستعمار المباشر للمغرب، وبعد أن سلمها مفاتيح السلطة وفق تفاهمات “إيكس ليبان” و”لاسيل سان كلو” عامي 1955- 1965 بعيدا عن أعين وعلم قادة حزب الاستقلال، ونصبوا رجلهم البكاي بن مبارك لهبيل، ضابط الجيش الفرنسي في الحرب العالمية الثانية والحرب الهند-الصينية، رئيسا لحكومة ما بعد الاستقلال التبعي، بتعبير رئيس حكومة فرنسا الاستعمارية إدغار فور، حتى “حكومة فيشي” التي نصبت يوم الثامن من سبتمبر 2021، فإنه كانت هناك نماذج أيضا من نخبة وطنية مقاومة، سياسية ومسلحة، لم تترك الاستعمار يأخذ نفسا واحد بعد توقيع اتفاقية فاس عام 1912، حتى أطلقت أولى شرارات المواجهة الشرسة في وجهه وفي صفوف أعوانه المحليين، مقاومة امتدت حتى اليوم، ذرية بعضها من بعض، وهي التي تمثل اليوم نخبة جديدة تحمل موقفا سياسيا وطنيا مستقلا، وتطرح مبادرة تجنب الجميع، دولة وملكية ووطنا تهديدات حماية فرنسية جديدة، وتشكل صمام أمان السلم الاجتماعي والسيادة الوطنية واستقلال الدولة أمام المستوطنين الجدد وأعوانهم، الشركات الفرنسية وورثة المقري وبن غبريط وبنحيون وبنسليمان والكتاني والكلاوي واليوسي، نخبة تستمد شرعيتها التاريخية والوطنية والدينية من السلسة الذهبية، قادة العمل الوطني منذ مطلع القرن العشرين، على سبيل المثال لا الحصر، الشيخ الشهيد عبد الكبير الكتاني والمجاهد عبد الكريم الخطابي والمجاهد موحا أوحموا الزياني والمجاهد عسو باسلام والمجاهد الشيخ الهيبة والشهيد علال بن عبد الله والشهيد محمد الزرقطوني والشهيد حمان الفطواكي والشهيد عبد العزيز بن إدريس والشهيد عباس المسعدي والشهيد أحمد أكوليز الملقب بشيخ العرب والعلامة الشيخ تقي الدين الهلالي والعلامة مولاي العربي العلوي والعلامة المختار السوسي والزعيم علال الفاسي والعلامة عبد الله كنون والزعيم عبد الله إبراهيم.
إن الملكية، ملكية الأمس في عهد السلاطين عبد العزيز وعبد الحفيظ ويوسف، وملكية اليوم، في عهد الملك محمد السادس، وملكية الغد، الحسن الثالث حسب الدستور والواقع، وبينهما ملكية الملكين محمد الخامس والحسن الثاني، لن يطيل في عمرها تملق الانتهازيين، ولا مشاريع المتزلفين، ممن يسعون بكل الوسائل للوصول إليها، ولن تضمن بقاءها من عدمه الحماية الفرنسية ولا غيرها، بالأمس واليوم وغدا، وقد تخلوا عنها وتركوها كلهم تواجه مصيرها عام 1953، إلا قليل ممن بقوا على العهد والوفاء، لأسباب عديدة، وتآمروا عليها جميعا ووقعوا عريضة العزل والنفي بمباركة وموافقة من جيء بها يوم الثلاثين من مارس 1912، لحماية العرش من الثورات التي عمت البلاد، وأيضا من خطر موقف العلماء ضد القوى الأجنبية وتماهي السلطان معها، خاصة السلطان عبد العزيز الذي وقع اتفاقية الجزيرة الخضراء المشؤومة عام 1906، والسلطان عبد الحفيظ الذي وقع اتفاقية الحماية بفاس عام 1912، وعلى رأس هؤلاء العلماء الشيخ العلامة الشهيد عبد الكبير الكتاني، صاحب البيعة المشروطة عام 1908، وإنما من حمى الملكية من الزوال والسقوط هم ثلة من الوطنيين والعلماء والمقاومين المجاهدين حتى لا يحكم البلاد عملاء فرنسا، أمثال محمد بن عرفة والتهامي الكلاوي ومحمد المقري وقدور/عبد القادر بن غبريط وعبد الحي الكتاني والفاطمي بنسليمان وأحمد بلمدني بنحيون، وأعادوا السلطان بقوة المقاومة والجهاد من منفاه إلى العرش من جديد على أساس اتفاق كان بينهم وبين السلطان محمد الخامس، وهو تحرير البلاد من الاستعمار الفرنسي وطابوره الخامس، وإقامة نظام شوري في ظل دستور يقره علماء ورجالات الفكر من الأمة من خلال هيئة منتخبة مستقلة، إلا أن الأمور سارت بعد الاستقلال التبعي إلى فتنة سياسية وانحرفت عن الاتفاق بين الوطنيين والسلطان، وزادت سوءا مع إسقاط حكومة عبد الله إبراهيم عام 1960، ومع موت الملك محمد الخامس المفاجئ عام 1961، وتولي نجله الحكم، الملك الراحل الحسن الثاني، وما تلا ذلك من سنوات الرصاص، 1961-1999، كما جاء في تقرير هيئة الإنصاف والمصالحة.
لقد كانت مرحلة ما بعد العزل والنفي مختلفة عن مرحلة ما قبلهما بالنسبة للسلطان محمد الخامس، إذ أدرك بأن التماهي مع سياسات الاستعمار الفرنسي، تحت الضغط والإكراه تارة، وحفاظا على العرش تارة أخرى، كادت أن تضيع ملكه وتبعده عن المقاومة وجيش التحرير والوطنيين، خاصة بعد أن رأى ما صدر من رجالات المخزن المقربين، قواد وباشوات ومستشارين وصدر أعظم وقضاة وأعيان كان يعتبرهم من المخلصين له، لذلك أعاد حساباته خلال مدة نفيه، 1953-1955، وربط الاتصال والتشاور مع الوطنيين والمقاومين للتحالف ضد الاستعمار الفرنسي وأذنابه المحليين، فاستعرت نار الجهاد الوطني، وأحرقت المقاومة الأرض تحت أقدام الاستعمار والعملاء، وضيقت عليه البقاء في المغرب، خاصة وأن المرحلة كانت عاصفة بحركات التحرر الوطني في إفريقيا والعالم العربي وآسيا وأمريكا اللاتينية مع صعود نجم الإمبراطورية الأمريكية غداة الحرب العالمية الثانية وسنوات قليلة بعد إنشاء هيئة الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية عام 1945، وصادفت إنشاء منظمة دول عدم الانحياز عام 1955، أحرقت الأرض سياسيا وجهاديا ودبلوماسيا، في صفوف النخب وعموم الناس، محليا وفي المحافل الدولية، حتى جاءت مفاوضات “إيكس ليبان” و”لاسيل سان كلو” عام 1955-1956، فلعبت فرنسا الاستعمارية لعبتها من جديد، وأقصي رجال المقاومة والجهاد والوطنية الحقة، وكسبت الجولة، مرة أخرى، ولعب القصر، توجسا من حزب الاستقلال وقياداته التاريخية والكاريزمية، بالتعاون مع فرنسا، لعب دورا محوريا بشأن تفاصيل الاستقلال التبعي وهندسة الحكومة الأولى والثانية برئاسة ضابط فرنسا، البكاي بن مبارك لهبيل، وانحرف مسار الاستقلال، وأول من تمت تصفيتهم جسديا وإبعادهم سياسيا هم رجال من المقاومة وجيش التحرير الوطني لفائدة “نخبة فيشي”.
لا أظن بأن النخبة الوطنية الجديدة اليوم، ولا الملكية في هذه المرحلة الحرجة، وهي تواجه نفس الوضع، وربما أسوأ، الذي واجهه السلطان محمد الخامس عام 1953، لا أظن أنهما مستعدان لمواجهة نفس المصير، ويجب أن يعبرا صراحة عن موقفهما السياسي وتصورهما الاستراتيجي، الإضعاف أو التهميش في حق الملكية، وريثة السلطان محمد الخامس، والإقصاء والإبعاد في حق هذه النخبة الوطنية الجديدة، وريثة المقاومين الوطنيين، وضع يأتي في سياق إقليمي ودولي مستعر بالصراعات والفوضى والحروب الأهلية والأطماع، تقودها قوى غربية تقليدية ممثلة في الولايات المتحدة الأمريكية، وهي تواجه نهاية عصرها وإمبراطوريتها، تتحداها، بإصرار وطموحات وأطماع كبيرة، قوى إمبراطورية صاعدة تسعى لترث التركة الغربية، ممثلة في روسيا والصين، تركة كلها في البلاد العربية، والمغرب جزء منها، التي تمر بأضعف وأهون أحوالها منذ حقبة الاستقلال منتصف القرن الماضي.