مصائد الموت في غزة

إحسان الفقيه3 يوليو 2025
إحسان الفقيه

يرى بعض العلماء أن ذاكرة السمك لا تتجاوز ثلاث ثوان، لذا يظل يقبل على التهام الطُعم كلما أُلقي إليه دون إدراك لمكامن الخطر، فمن ثمّ يُوصف من ينسى سريعا بأنه صاحب ذاكرة سمكية.

في غزة وحدها، يقطع المواطن المسافات البعيدة سيرًا على الأقدام، باتجاه نقاط توزيع الطعام المحدودة، أملًا في الحصول على ما يسد الرمق، يفعل وهو بكامل لياقة ذاكرته التي سجلت مشاهد القصف الإسرائيلي المتكرر لمنتظري المساعدات.

لم يحمل الغزاوي ذاكرة سمكية، وليس مُغيَّب الإدراك عن مواطن الخطر، بل يتجه إلى نقاط التوزيع وهو يقلب بصره بين أكياس الطحين، وبين السماء التي يحذر أن تطل منها إحدى طائرات الغدر لتجهز عليه وهو يُمنّي نفسه بدخول بيته بوجبة تشبع البطون الخاوية إلى حين.

ليس هناك أشد فتكا بالإنسان من الجوع، ولذا عندما رتب علماء النفس الحاجات الإنسانية جعلوا على رأسها الحاجات الفسيولوجية من طعام وشراب لأنها تتعلق بغريزة حب البقاء، وقدموها على الحاجة إلى الأمان، لذا لا تأخذنا الدهشة ونحن نرى سكان القطاع المنكوب وهم يغامرون بحياتهم من أجل الغذاء، فالمعادلة الوحيدة في هذا الشأن: موتٌ محقق بدون الغذاء، واحتمال النجاة بالحياة والطعام حال المغامرة.

أما وإننا بمنأى عن مثل هذه المعاناة، فإننا لا ندرك بشاعة هذه المشاهد، التي يختار فيها المواطن الغزاوي بين الموت جوعًا والموت قصفًا.

الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، أطلق إحدى أبرز فكاهات العصر، عندما قال: «الناس يموتون في غزة ولا أحد يقدم المساعدة لسكان القطاع، بينما نفعل نحن».

هي فكاهة، هكذا اعتبرتها، بل هي كوميديا سوداء يكون فيها الضحك حتى البكاء، خليط من الحقيقة المبتورة والتدليس والسخرية. «الناس يموتون في غزة»، نعم هم يموتون بصواريخكم وقنابلكم يا سيادة الرئيس التي أغدقتم بها على الاحتلال الصهيوني، ويموتون جوعًا بمباركتكم لهذا الحصار المفروض على القطاع.

«ولا أحد يقدم المساعدة لسكان القطاع»، نعم صدقت يا سيد البيت الأبيض، لا أحد يقدم المساعدات والفضل يعود إليكم، فبينما تتفاخرون وتتباهون بأنكم أوقفتم الحرب الإيرانية الإسرائيلية التي أرعبت العالم وجعلته على شفا الدمار، ضننتم على أهل غزة بدخول المساعدات التي تكدست على المعابر لإنقاذ الجوعى، استجابة لطفلكم المدلل، فهل كنتم تعجزون عن الضغط على الاحتلال في السماح للمدنيين الذين لم يمسكوا بندقية ولم يطلقوا رصاصة بأن يسدوا الرمق لكي يعيشوا؟

«بينما نحن نفعل»، نعم هذا هو الاستثناء، أنت وحدك أيها الرئيس من يفعل، أمريكا وحدها هي من تقدم المساعدات، ولنكن أكثر دقة في تعبيرنا: تنصبون مصائد الموت.

آلية المساعدات الوحيدة التي سمحت بها أمريكا وفرضتها قسرًا، جاءت عن طريق مؤسسة غزة الإنسانية المشبوهة، والتي حذر أجيث سونغاي ممثل مكتب حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في غزة، من أنها تفتقد للإنصاف والحياد والاستقلالية وتنطوي على إذلال يفاقم معاناة الفلسطينيين.

لكن نقاط التوزيع التابعة لهذه المؤسسة، أضحت مصائد قاتلة للغزاويين، فعلى مدى شهر كامل من بدء عمل هذه المؤسسة، يتعرض السكان الذين ينتظرون توزيع المساعدات إلى القصف الإسرائيلي الوحشي على مرأى ومسمع من العالم –وترامب أيضا- لتخييرهم بين الموت جوعًا أو الموت بالصواريخ، ثم يتفاخر الرئيس الأمريكي بأن بلاده وحدها من تقدم المساعدات لسكان غزة.

الشركة الأمريكية المخولة بتوزيع المساعدات، لا تكتفي بأنها نقاط محدودة تجبر السكان على قطع المسافات الطويلة للحصول على ما يسد الرمق، ولا تكتفي بأنها وسيلة استدراج يومي لقتل أهل غزة بالقصف الإسرائيلي، فقد أضافت إلى مهامها الإجرامية مهمة العبث القذر في النسيج المجتمعي والصحة العقلية والنفسية للسكان، إذ تم توثيق العثور على أقراص مخدرة من نوع «أوكسيكودون» داخل أكياس الطحين التي توزع على أهل غزة، ما ينذر بلون جديد من ألوان المعاناة الكارثية التي يواجهها القطاع تعد امتدادا لجريمة الإبادة الجماعية التي يمارسها الاحتلال ضد غزة.

سحقا لهذا العالم الذي لا يستطيع اتخاذ قرار عملي بإنقاذ أهل غزة من الموت جوعًا، لكننا لن نفرط في إدانة الغرب والشرق على جريمة الصمت، فأول من يدان هم الذين يرفعون شعار الإسلام والعروبة وجلسوا على مقاعد المتفرجين.


إحسان الفقيه | كاتبة أردنية، باحثة في التاريخ والعقائد.
اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

عاجل