
إن من أهم مقوِّيات الإيمانِ معرفةُ حقيقةِ الدنيا، وأنّها مهما طالتْ فهي إلى زوالٍ، وأنّ متاعَها مهما عَظُمَ، فإنّه قليلٌ حقيرٌ، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [يونس: 24].
إنّ الآية الكريمةَ السابقة فيها عشرُ جملٍ وقعَ التركيبُ من مجموعها، بحيثُ لو سقطَ منها شيءٌ اختلّ التشبيه، إذ المقصودُ تشبيهُ حالِ الدنيا بسرعةِ تقضّيها، وانقراضِ نعيمها، واغترارِ الناس بها، بحالِ ماءٍ نزلَ من السماء وأنبتَ أنواعَ العشب، وزيّنَ بزخرفه وجهَ الأرضِ، كالعروس إذا أخذتْ الثيابَ الفاخرة، حتى إذا طمع أهلُها فيها وظنّوا أنّها مسلمّةٌ من الجوائح، أتاها بأسُ اللهِ فجأةً، فكأنها لم تكن بالأمس. (مباحث في إعجاز القران، مسلم، ص. 216).
وفي مثلٍ آخر يصور الله تعالى فيه قيمة الدنيا بما يشبه هذا المعنى، فيقول سبحانه: ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا﴾ [الكهف: 45].
أي: واضرب يا محمُّد للناسِ مثل الحياة الدنيا كمثل المطر الذي نزل على الحَبِّ، فشبَّ، ونما، وحَسُنَ، وعلاه الزهرُ والنضرةُ، ثم بعد هذا كله تفرِّقه الرياح وتطرحه ذاتَ اليمينِ وذاتَ الشمالِ، فيصبح عرضة للزوال والفناء.
وقال تعالى: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخرة عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ [الحديد: 20].
هذا هو حال الدنيا التي لا تبقى، كما لا يبقى النباتُ الذي وصف في الآية، ولمّا كان هذا المثلُ دالاً على زوال الدنيا، وانقضائها لا محالةَ، وأنَّ الآخرة كائنةٌ وآتيةٌ لا محالةَ، حذّرنا الله تعالى من أمرها، ورغّبنا بما فيها من الخيرِ، فقال تعالى: ﴿وَفِي الآخرة عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ﴾ أي: وليس في الآخرة الآتيةِ إلا مغفرة من الله ورضوان، وإمّا عذابٌ شديد، وقوله تعالى: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ أي: هي متاعٌ زائلٌ يغرُّ ويخدعُ مَنْ يركنُ إليها، فيغترّ بها، ومن يعتقدُ أنّه لا دارَ سواها، ولا معادَ ورائها، مع أنها حقيرةٌ قليلةُ المتاعِ بالنسبة إلى الدّار الآخرة. (تفسير القاسمي، 11/ 49).
إنّ هذه الحقيقةَ التي أشارت إليها الآيات الكريمة، هي حقيقةُ الدنيا بكلِّ متاعها وزينتِها، وما تشتهيه النفسُ منها، وإنَّ كلَّ ذلك بالنسبة لنعيم الآخرة شيءٌ تافه وقليلٌ وزائلٌ، هكذا فهم المسلمون حقيقةَ الدنيا، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبصّرهم، ويذكّرهم بدورهم ورسالتِهم في الأرض، ومكانتِهم عند الله، وظلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم على هذه الحال من التبصير والتذكير حتّى انقدحَ في ذهنهم ما لهم عند الله، وما دورُهم وما رسالتُهم في الأرض، وتأثراً بتربيته الحميدة تـولّد الحمـاسُ والعزيمـةُ في نفوس أصحابه، فانطلقوا عاملين بالليل والنهار بكلِّ ما في وسعهم وما في طاقتهم دون فتور أو توانٍ، ودون كسل أو ملل، ودون خـوفٍ من أحـدٍ إلا الله، ودونَ طمعٍ في مغنـم أو جـاه، إلا أداء هـذا الـدور وهذه الرسـالـة لتحقيق هذه الغـايـة في الدنيا، والفوز والنجاة في الآخرة. (الإيمان بالله، الصلابي، ص. 186).
مراجع:
– مباحث في إعجاز القران، د. مصطفى مسلم، دار القلم، دمشق، 2005م.
– تفسير القاسمي.
– الإيمان بالله، علي الصلابي، ط. 1، دار الأصالة، تركيا، 2023م.