منذ عقد اتفاقيات السلام بين الدول العربية والكيان الإسرائيلي في الربع الأخير من القرن الماضي، انبرت أقلام ومنابر إعلامية ونخب سياسية وثقافية نازعة للسلام مع الاحتلال، تنفي فكرة دولة إسرائيل الكبرى الممتدة من النيل إلى الفرات، تضم عدة دول عربية، وأنها لم تكن سوى ديباجة استخدمها أساطين الصهيونية الأوائل كضرورة تأسيسية، مؤكدة أنه لا وجود لهذا المشروع، إلا في أذهان بعض المتطرفين الواقعين في أسر الميثولوجيا.
هذه الرؤية راجت بشكل ملحوظ، وأصبحت هناك قناعة لدى الكثيرين بغلبة السياسي على الديني في التوجهات الإسرائيلية، بيد أن الأحداث منذ السابع من أكتوبر، تؤكد أن التوسع خارج حدود فلسطين وإقامة دولة إسرائيل الكبرى هو من صميم العقيدة الصهيونية، التي تتبناها الحكومة اليمينية المتطرفة التي تقود دولة الاحتلال.
هناك حزمة من الدلائل والعوامل أيضا، تعزز القول إن هناك توجهات إسرائيلية للتوسع خارج حدود فلسطين ضمن مشروع إسرائيل الكبرى:
فمنها سيطرة الصهيونية الدينية على مقاليد الأمور في دولة الاحتلال، الذي يصيغ الكيان الإسرائيلي بكل سياساته ومؤسساته، وفقا للنصوص الدينية، هذا التيار لا يؤمن بالوجود الفلسطيني من أساسه، ومن ثم لا يؤمن بالسلام مع العرب ويعتبرهم أعداء يجب استئصالهم. نتنياهو الذي يتزعم اليمين، متشبع بالخرافة الدينية، التي يحسن توظيفها سياسيا في إلهاب المشاعر اليهودية والإسراع من وتيرة التوسع الاستيطاني، كنبوءة أشعياء، التي تؤكد الانتصار النهائي لليهود على الأغيار، وهم العرب والفلسطينيون، باعتبارهم «العماليق» الذين ينبغي التخلص منهم.
دانييلا فايس، واحدة من أهم قيادات هذا التيار ذات العلاقة الوثيقة بمخططات الاستيطان في الضفة، وتكوين ميليشيات من متطرفي المستوطنين، تتحدث علانية بمشروع إسرائيل الكبرى، فتقول: «حدود دولة اليهود هي الحدود التي وعد الرب بها إبراهيم: من الفرات إلى النيل»، وتعني بذلك ما ورد في سفر التكوين: «لنسلك أعطي هذه الأرض، من نهر مصر إلى النهر الكبير، نهر الفرات». كما أكدت فايس على أن هذه الحدود تشمل أراضي من دول أخرى، وأن كتابهم المقدس هو الوثيقة الوحيدة التي يعتدون بها ويحتاجونها في ذلك.
وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش، صرح في مقابلة مع قناة إسرائيلية، وكان حينها عضوا في الكنيست: «حدود القدس يجب أن تمتد حتى العاصمة السورية دمشق، وإن على إسرائيل الاستيلاء أيضا على الأردن». وهو يؤكد هذا الحلم في مناسبات عدة، ففي مارس من العام الماضي، خلال زيارته باريس، وقف أمام منصة عليها خريطة لأرض إسرائيل الكبرى المزعومة، تفاعل معها الكاتب ديفيد ميلر فنشر خريطة تزعم أن حدود دولة إسرائيل الكبرى تشمل أجزاء من مصر والعراق والسعودية وسوريا وكامل فلسطين التاريخية والأردن ولبنان، وأرفقها بتعليق: «لقد كان العرب على حق منذ البداية بشأن إسرائيل الكبرى، لقد كانت هذه هي الخطة دائما».
ومن هذه الدلائل خطة «ينون»، التي كتبها الصحافي والدبلوماسي عوديد ينون الذي كان يشغل منصب مستشار رئيس الوزراء الأسبق أرييل شارون، وظهرت للمرة الأولى في مجلة «كيفونيم» الصادرة عن المنظمة الصهيونية العالمية عام 1982، استنادا إلى رؤية ثيودور هرتزل مؤسس الصهيونية، ومؤسسي دولة الاحتلال أمثال بن غوريون.
هذه الخطة أعاد نشرها مركز دراسات العولمة الأمريكي «غلوبال ريسيرش» عام 2015، وقال إنها تشكل حجر الزاوية في سياسات حكومة نتنياهو وسياسات المؤسسات العسكرية والاستخباراتية. وذكر أن الخطة تتضمن طرد الفلسطينيين وضم الضفة وقطاع غزة، وتركز على إضعاف وتقسيم الدول العربية إلى دويلات تصبح كل منها معتمدة على إسرائيل في بقائها وشرعيتها، وتدعو الوثيقة لتقسيم العراق إلى دولة كردية ودولة سنية وأخرى شيعية، وتقسيم مصر والسودان وليبيا كذلك، إضافة إلى تقسيم لبنان وسوريا.
يأخذ مشروع إسرائيل الكبرى حاليا مسمى جديدا وهو «شرق أوسط جديد»، وهو ما ظهر في الخريطة التي رفعها نتنياهو في أكثر من مناسبة، وخلت من الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة. ومن هذه الدلائل طبيعة الأداء العسكري والعمليات العسكرية التي يقوم بها جيش الاحتلال، والتي تؤكد نية التوسع خارج حدود فلسطين، فالمُشاهد أن الاحتلال لا يحارب المقاومة الفلسطينية وحزب الله اللبناني، وإنما يحارب الأرض، فهو يتبع سياسة الأرض المحروقة، ويبيد الأخضر واليابس، ويستخدم القنابل الأمريكية المدمرة، ليحيل الأرض التي يقصفها إلى مناطق غير قابلة للإعمار.
وحاليا، يعمل جيش الاحتلال على إحداث تغييرات جذرية في قطاع غزة عن طريق توسيع هائل في محور نتساريم، الذي يفصل شمال غزة عن جنوبها، وتضم منشآت عسكرية ثابتة فيه بهدف الإبقاء على وجود عسكري دائم يضم معتقلات ومراكز قيادة، بهدف جعل المحور قسما ثالثا بذاته، ليكون منطلقا للاستيطان اليهودي في غزة.
وفي الوقت الذي يشن الاحتلال عملياته على قطاع غزة ولبنان وأحيانا سوريا، تواترت الأنباء عن توغل إسرائيل داخل الأراضي السورية، حيث أفادت بتوغل قوة إسرائيلية مصحوبة بعربات مصفحة قرب بلدة كودنة إلى جانب تل الأحمر الغربي في ريف القنيطرة الجنوبي، وقامت بتجريف بعض الأراضي الزراعية على امتداد 500 متر بعرض ألف متر، ثم ضمتها إلى الجانب الإسرائيلي عبر وضع شريط شائك.
ومن العوامل التي يبني عليها الاحتلال تنفيذ مشروعه التوسعي، عودة ترامب إلى البيت الأبيض، وهو أكثر من دعم الاستيطان الإسرائيلي، وأعلن نقل سفارة بلاده إلى القدس، ودشّن إبان حملته الانتخابية الأخيرة قبل فوزه لتوسع إسرائيل عندما قال: «مساحة إسرائيل تبدو صغيرة على الخريطة، ولطالما فكرت في كيفية توسيعها»، بما يعني أن هناك توافقا بين رؤيته والحكومة اليمينية المتطرفة بزعامة نتنياهو في توسع دولة الاحتلال.
حديث ترامب هذا لم يأت من فراغ ولم يكن محض دعاية انتخابية، بل يأتي منسجما مع مشروع الشرق الأوسط الجديد، مرتبطا بالرواية التوراتية التي ترى إسرائيل من النيل إلى الفرات، واستجابة لمساعي الدولة العميقة داخل الولايات المتحدة. وعد ترامب ليس جديدا، بل هو استكمال لصفقة القرن التي كان قد أعلن عنها في فترة رئاسته الأولى، التي تتضمن ترسيم حدود جغرافية جديدة لدولة إسرائيل، فجاء في هذه الفترة ليستكمل ما بدأه سابقا.
ويأتي الموقف العربي الضعيف المتخاذل الذي يكتفي فيه العرب بالجلوس على مقاعد المتفرجين، انتظارا لما ستسفر عنه الأحداث، أحد العوامل التي تهيئ للكيان الإسرائيلي المناخ المناسب لإتمام مشروعه التوسعي.
لقد بات مشروع إسرائيل الكبرى حقيقة لا ريب فيها إلا من مغرض أو مكابر، ولم يعد هناك شك في أننا جميعا مستهدفون من الاحتلال، مهما اتجهنا إلى السلام المزعوم ومهما هرولنا باتجاه التطبيع.
وما زال يعيينا التفكير في حكمة الثور الأبيض، في النسخة القديمة قال الثور الأسود، «أكلت يوم أكل الثور الأبيض» بعدما اكتشف كذبة الأسد في مصادقته وأن عداءه مع الثورين الأبيض والأحمر فحسب، لكن في النسخة الحالية لم يزل الثور الأسود على أمل في أن يَصْدُقه الأسد بينما الأخير يلتهم أطرافه، ويبدو أنه سوف يموت وهو على تلك القناعة، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.