كاينابريس – د. عبد الله معروف(*)
مع اقتراب شهر رمضان المبارك، بدأت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية تعدّ العدّة للشهر الأثقل عليها طَوال العام، خاصةً أنه يأتي هذا العام في ظل الحرب على قطاع غزة، سواء توقف القتال قبل أو خلال الشهر أم لم يتوقف، وفي ظل هياج غير مسبوق لجماعات المستوطنين واليمين المتطرف في إسرائيل بعد هزيمة السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، التي لم تتمكن إسرائيل بعدُ من استيعابها أو التعامل مع آثارها بالرغم من كل الدمار الذي نشرته في قطاع غزة، والحرب المعلنة منها على الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية والقدس.
لذلك، فإن التحضيرات التي تقوم بها الأجهزة الأمنية الإسرائيلية هذا العام للتعامل مع هذا الشهر الفضيل تعتبر الأشد حساسيةً منذ الاحتلال الإسرائيلي للمسجد عام 1967، تبعًا للظروف غير المسبوقة التي تمرّ بها.
موسم شهر رمضان المبارك القادم سيتقاطع مع عدد من مواسم الاقتحامات في المسجد الأقصى، أولها عيد المساخر “البوريم” الذي سيحل في منتصف شهر رمضان، وبالرغم من أنه ليس من مواسم الاقتحامات الكبرى في العادة، فإن تزامنه هذا العام مع تحدي شهر رمضان ومعركة “طوفان الأقصى” يكسبه أهميةً خاصةً لدى جماعات المعبد المتطرفة
ينبغي أن نعلم هنا أن الأمر حين يتعلق بشهر رمضان المبارك في المسجد الأقصى، فإن سلطات الاحتلال تتعامل في العادة مع مستويين اثنَين من التحديات:
– المستوى الأول: يتمثل في الشبان المقدسيين، ومعهم في العادة فلسطينيو مناطق الخط الأخضر، الذين يفترض أنهم قادرون عادةً في الأوقات الأخرى على الوصول للمسجد الأقصى المبارك باعتبارهم يحملون بطاقات هُوية إسرائيلية.
وهؤلاء -ولا سيما الشباب المقدسي- غالبًا ما كانوا يشكلون العبء الأمني الأكبر للأجهزة الأمنية الإسرائيلية في المسجد في السنوات الماضية. وخاصة شباب مدينة القدس الذين يعتبرون أنفسهم في مواجهة مستمرة مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، وقد سبق أن كانوا الخط الأول في مواجهات كثيرة سابقًا مع قوات الاحتلال داخل المسجد الأقصى المبارك.
– أما المستوى الثاني: فيتعلق بالفلسطينيين من سكان الضفة الغربية، الذين تمنعهم إسرائيل في العادة من حرية الوصول إلى المسجد الأقصى وتستثني من ذلك موسم شهر رمضان المبارك، الذي تسمح فيه في كل عامٍ لأعدادٍ محدودةٍ – من فلسطينيي الضفة الغربية من أعمار محددة من الرجال أو من حَمَلة التصاريح الأمنية أو من النساء- بالوصول لأداء الصلاة في المسجد الأقصى المبارك أيام الجمعة تحديدًا.
وهذا المستوى في العادة لا يشكّل التحدي الأمني الأبرز لسلطات الاحتلال كل عامٍ إلا على مستوى تكثيف الأعداد في المسجد، بما يشجّع التحركات الجماهيرية للشباب المقدسي داخل المسجد؛ استغلالًا لوجود الأعداد الغفيرة من الناس هناك، وهو ما تخشاه سلطات الاحتلال وتحسب حسابه كل سنة.
فحين تكون الأعداد في المسجد الأقصى محدودةً، فإن ذلك يسهل السيطرة الأمنية الإسرائيلية على المسجد عمومًا، ويكفل لها التمكن من ضبط الحركة ووقف أي احتكاكات أو اشتباكات وتفريقها بسهولة.
لكن زيادة الأعداد داخل المسجد تعتبر تحديًا أمنيًا كبيرًا؛ تبعًا لعدم قدرة شرطة الاحتلال على التحكم في حركة الجمهور، وخاصةً في حالات الاضطرابات الأمنية كالتي شهدها المسجد في رمضان عام 2021 على سبيل المثال.
المحصلة أن إسرائيل تخشى شهر رمضان المبارك، وتعتبره أثقل شهور السنة عليها، فكيف إذا كانت ستتعامل معه هذا العام في ظل كل ما يجري في المنطقة منذ اشتعالها يوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي؟ ولذلك، فإن إسرائيل بدأت فيما يبدو تعمل على التحضير العملي لهذه المرحلة مبكرًا من خلال تسريب أنباءٍ تفيد بوجود خلافات بين الجيش والشرطة في موضوع السماح لفلسطينيي الضفة الغربية بالوصول إلى الأقصى في شهر رمضان القادم.
وهذا ما نقلته صحيفة “يديعوت أحرونوت” قبل أيام، حيث يدعي الصحفي الإسرائيلي إيتمار أيكنار أنه بينما تريد شرطة الاحتلال -التي تعمل تحت سلطة الوزير إيتمار بن غفير – تنفيذ سياسة “صفر فلسطينيين”؛ أي منع جميع سكان الضفة الغربية، تحديدًا، من الوصول إلى المسجد الأقصى في رمضان، فإن قيادة الجيش الإسرائيلي ترى ضرورة السماح لأعداد محدودة من سكان الضفة بالوصول للأقصى لتنفيس الضغط الشديد في الضفة الغربية.
أقول؛ إنها تسريبات تحضيرية مقصودة؛ لأن النية من الواضح أنها تتّجه إلى تقييد وصول أبناء الضفة الغربية للقدس هذا العام بشكل شبه كامل، بالرغم مما تدّعيه “يديعوت أحرونوت” حول وجود خلافات، وذلك لأن هذه الخلافات التي تشير إليها الصحيفة لا تتعلق بالمبدأ بل بالكَم، بمعنى أن الخلاف يدور حول ما إذا كان ينبغي لإسرائيل أن تسمح لعدد محدود جدًا من سكان الضفة بالوصول للأقصى، أم أن يتم منعهم جميعًا؟
وهذا متوقع، إذ من غير المعقول أن تضغط إسرائيل باعتداءاتها اليومية المختلفة على مدن الضفة الغربية، ثم تفتح بوابات مدينة القدس على مصراعيها لسكان الضفة، بينما القدس مغلقة على سكانها الفلسطينيين أنفسهم.
أما هدف هذه التسريبات في رأيي؛ فهو تحضير الرأي العام الفلسطيني لتوقع ما تجهّز له قوات الاحتلال في شهر رمضان المبارك بحق الفلسطينيين جميعًا من إجراءاتٍ لمنعهم وإقصائهم عن المسجد. وفي الحقيقة فإن وراء ذلك أهدافًا أخرى لا تعلن عنها سلطات الاحتلال، وقد تكون هي الأهداف الحقيقية المقصودة.
فموسم شهر رمضان المبارك القادم سيتقاطع مع عدد من مواسم الاقتحامات في المسجد الأقصى، أولها عيد المساخر “البوريم” الذي سيحل في منتصف شهر رمضان، وبالرغم من أنه ليس من مواسم الاقتحامات الكبرى في العادة، فإن تزامنه هذا العام مع تحدي شهر رمضان ومعركة “طوفان الأقصى” يكسبه أهميةً خاصةً لدى جماعات المعبد المتطرفة وتيار الصهيونية الدينية اليميني والتيار الكاهاني الذي يعدّ وزير الأمن القومي المتطرف إيتمار بن غفير أحد أهم أعمدته.
وبالتالي، فإن هذا الموسم سيكون بمثابة فرصةٍ لاستعراض قوة إيتمار بن غفير في المسجد الأقصى، ولإثبات قدرته على فرض السيادة الإسرائيلية على المسجد الأقصى بما لم يتمكن منه حتى بنيامين نتنياهو نفسه، وربما تكون هذه فرصةً ذهبيةً لبن غفير ليقدم نفسه زعيمًا لليمين في إسرائيل، وهو ما دأب الرجل عليه منذ تسلّمه منصب الوزارة، وخاصة عند بدء أحداث الحرب الجارية.
هذه المحطة ستكون محطةً مهمةً جدًا إذن، حيث إن الحكومة اليمينية الإسرائيلية ستقيّمها بشكل متكامل؛ استعدادًا للمحطة التالية بعد انتهاء شهر رمضان المبارك مباشرة، وهي مناسبة عيد الفصح اليهودي الذي سيوافق الفترة من 23 إلى 30 إبريل/ نيسان القادم، أي بعد أسبوعين فقط من نهاية شهر رمضان المبارك، وهو ما ستحاول فيه جماعات المعبد المتطرفة هذا العام تنفيذ القرابين الحيوانية داخل المسجد الأقصى بشكل أكثر جديةً مما سبق، مستغلةً انتهاء موسم شهر رمضان، وعودة أعداد المسلمين لتقل بعد انتهاء الشهر عمومًا كما تجري العادة، بالترافق مع أجواء الحرب التي تعيشها المنطقة.
إذن يمكن القول هنا؛ إن حكومة الاحتلال أمامها تحدٍّ كبير في شهر رمضان المبارك لتقليل أعداد المسلمين بشكل كبيرٍ خلال الشهر مع تنفيذ اقتحامات عيد المساخر إلى الحد الذي تعتبره نجاحًا.
ونجاحها في هذا المسعى يعني بالضرورة فتح شهيتها لتنفيذ حُلم قديم لم تتمكن من تنفيذه على مدار سنوات طويلة ماضية بمجرد انتهاء شهر رمضان، وهو تنفيذ طقوس ذبح القرابين الحيوانية داخل المسجد وإتمام آخر طقس ديني توراتي تبقى لها لتثبيت تغيير الوضع القائم في المسجد الأقصى بتحويله إلى معبدٍ يهودي معنويًا، بحيث تنتقل منذ تلك اللحظة إلى العمل على تحويله إلى معبد ماديًا، إما باقتطاع جزء من أرض المسجد الأقصى كمقدمةٍ لهذا الغرض، أو بالسيطرة الكاملة على نصف مساحة المسجد على الأقل كما تحلُم إسرائيل منذ أكثر من خمسة وخمسين عامًا.
وهذا ما ستعتبره إسرائيل انتصارًا مركزيًا لها حتى في الحرب الحالية بالنظر إلى أن المقاومة الفلسطينية وضعت المسجد الأقصى المبارك على رأس الأهداف الإستراتيجية التي عينتها لعملية “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.
هذا الأمر ينقل الكرة إلى ملعب المقدسيين والشعب الفلسطيني في الضفة الغربية، حيث إن تمكُّن إسرائيل من تنفيذ جميع هذه الخطوات مرهونٌ بكيفية تعامل الفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس والداخل الفلسطيني مع إجراءات المنع الإسرائيلية المتوقعة في المسجد الأقصى خلال شهر رمضان المبارك القادم.
وينبغي هنا التذكير بأن ارتفاعَ الروح الدينية لدى المسلمين خلال أيام شهر رمضان عمومًا يُعتبر المسألة الكبرى التي تتخوف منها إسرائيل. لأن هذه الروح هي التي تدفع الفلسطينيين في تلك الأيام بالذات إلى تكثيف الاستعدادات النفسية والأعداد الشعبية على حد سواء لتحدي الإجراءات الإسرائيلية إلى أعلى درجة، وهذا ما لا تريده إسرائيل، لأن أي شرارة كبرى في القدس يمكنها أن تشعل انتفاضة جديدة أو تؤدي إلى توسيع نطاق الحرب إلى المدى الذي لا تستطيع إسرائيل ولا حلفاؤها الوقوف في وجهه.
(*) أستاذ دراسات بيت المقدس ومسؤول الإعلام والعلاقات العامة السابق بالمسجد الأقصى.