ثلاثة أيام بعد هروب بشار الأسد وسقوط حكمه في سوريا، كانت كافية تماما لانقشاع الضباب وزوال الغبار الذي حجب عنّا الرؤية يوم السبت الذي شهد السقوط الدراماتيكي لرأس النظام البعثي.
سوريا تحت التدمير الشامل والممنهج وغير المسبوق منذ زوال الحكم العثماني في المنطقة وظهور الورم السرطاني الصهيوني في فلسطين. كأن هولاكو الذي غزا بغداد منتصف القرن الثالث عشر ودمّرها تدميرا، انبعث من رماده ليكرّر الفعلة نفسها اليوم مع دمشق والشام، رافعا العلم الأزرق بنجمته السداسية.
علينا أن نستيقظ من حالة الانتشاء الجماعي التي استبدّت بنا بعد رحيل حاكم كان نهجه في الحكم أشبه بسيرة وحوش الغابات والفيافي. هناك من لم ينتظر حتى يفهم، ولا فغر فاه متأثرا بوقع المفاجأة ولا ترك لنا حتى مهلة لإنهاء ابتساماتنا البلهاء.
لا مجال نهائيا لأي ندم أو حسرة على رحيل بشّار الأسد وعصابته عن حكم سوريا، لكن لا يمكننا تجاهل هذا التدمير الذي لا ينبعث منه الدخان فقط، بل تصلنا منه الكثير من روائح الحقد البغيض والتعطّش لتحويل سوريا، بلاد الحضارات والثقافات والعلوم ومزيج العبقريات المترفقة من أنهار التاريخ؛ إلى أرض جرداء قاحلة.
ألهذه الدرجة تخيف سوريا كل القوى الإقليمية والدولية ذات الأطماع والمصالح في المنطقة؟
سقوط نظام بشار الأسد في سوريا يمثل لحظة تحول دراماتيكية في تاريخ البلاد، ولكنها لحظة تتشابك فيها المصالح الدولية والإقليمية بطريقة تعكس تعقيد الأوضاع في المنطقة.
هذا الحدث، الذي كان نتيجة لسنوات طويلة من الصراع والدمار، لم يخلق فراغا سياسيا فقط، بل كشف أيضا عن تنافس ثلاث قوى أساسية على مستقبل سوريا: تركيا، إسرائيل، والولايات المتحدة.
كل من هذه القوى لديها أجندات واضحة ومصالح متباينة، لكنها تلتقي جميعها عند تقاطع واحد: استغلال الوضع الجديد لترسيخ نفوذها في سوريا، وهو ما يبدو أن اتفاقا حصل بأونه يبدأ من تدميرها.
تركيا، التي لطالما كانت لها حدود مشتركة متوترة مع سوريا، بسبب التاريخ العثماني والمعطى الكردي، وجدت في سقوط الأسد فرصة لتصفية حسابات طويلة مع الفصائل الكردية.
التدخلات العسكرية التركية في الشمال السوري ليست جديدة، لكنها الآن تأخذ طابعا أكثر جرأة، مع السعي لإنشاء منطقة آمنة تمتد على طول الحدود.
هذه المنطقة، التي تبررها أنقرة بحجة الأمن القومي، هي في الواقع خطوة استباقية تهدف إلى منع نشوء كيان كردي مستقل يمكن أن يشكل خطرا على وحدة الأراضي التركية. هذه السياسة التركية ستضعف الاستقرار الداخلي في سوريا، حيث تُفاقم العداء مع الأكراد وتخلق نقاط توتر جديدة تعيق جهود إعادة الإعمار المنتظرة.
من ناحية أخرى، تتحرك إسرائيل بسرعة وبكل طاقة التوحّش التي تختزنها، لتعزيز مكاسبها الأمنية والعسكرية. الحملة الجوية المكثفة والحمقاء التي شنتها إسرائيل عقب سقوط الأسد تسعى إلى تدمير أي بنية تحتية عسكرية، بذريعة أنها قد تهدد أمنها في المستقبل، وخاصة تلك المرتبطة بإيران وحزب الله. لكنها في الطريق إلى ذلك تدمّر كل ما يمكن أن يسمح لسوريا باستئناف نهضتها العلمية والثقافية التي يشهد القريب والبعيد بأنها كانت تحقق لها الريادة العربية قبل عقود.
استهداف موانئ اللاذقية ومواقع الأبحاث العسكرية ومخازن الأسلحة يعكس استراتيجية إسرائيلية مزدوجة: أولا، تفكيك البنية التحتية العسكرية التي أنشأها النظام السوري السابق؛ وثانيا، إرسال رسالة واضحة بأن إسرائيل لن تسمح بعودة أي تهديد استراتيجي على حدودها الشمالية.
ومع ذلك، فإن هذا النهج يثير تساؤلات حول النوايا الحقيقية لإسرائيل، حيث يبدو أنها تستغل هشاشة الوضع لتحقيق مكاسب إقليمية طويلة الأمد، في إطار ما يسمّيه نتانياهو تغيير وجه الشرق الأوسط.
أما الولايات المتحدة، فقد ركزت عملياتها العسكرية على محاربة تنظيم داعش المتبقي في سوريا. هذا التدخل، رغم أنه يبدو في الظاهر دعما لجهود الاستقرار، يعكس مخاوف واشنطن من استغلال هذا التنظيم للفوضى الحالية لاستعادة نفوذه.
بالإضافة إلى ذلك، تبرر واشنطن غاراتها هذه بوجود مخاوف عميقة من احتمال وقوع الأسلحة الكيميائية أو التقنيات العسكرية المتقدمة في أيدي الجماعات المتطرفة. كما لو أن هذه الأسلحة كانت مشروعة عندما كان بشار الأسد يستعملها ضد السوريين.
السياسة الأمريكية في سوريا تظهر تناقضا بين دعم مزعوم لجهود إعادة الإعمار والديمقراطية من جهة، والحرص على عدم السماح لأي فصيل بالسيطرة الكاملة على البلاد من جهة أخرى. تصريحات الرئيس الأمريكي جو بايدن تُظهر اهتماما بالعمل مع الشركاء الإقليميين، لكنها تعكس أيضا قلقا من تصاعد النفوذ الإيراني أو التركي على حساب المصالح الأمريكية.
في هذا السياق، يعبّر الوضع في سوريا عن صورة أوسع تعكس التحولات الجيوسياسية في الشرق الأوسط. فسقوط الأسد لا يعني بالضرورة نهاية الصراع، بل ربما يمثل بداية فصل جديد من التدخلات الأجنبية والتوترات الإقليمية.
الخطر الأكبر يكمن في احتمال تقسيم سوريا إلى مناطق نفوذ متناحرة، حيث تصبح كل منطقة تحت سيطرة قوة إقليمية أو دولية. هذا السيناريو قد يحوّل سوريا إلى ساحة صراع طويل الأمد، مما يزيد من معاناة الشعب السوري ويعقد جهود إعادة الإعمار.
بالإضافة إلى ذلك، فإن ما يحدث في سوريا يحمل دروسا للدول العربية الأخرى. الهيمنة الأجنبية التي تتكشف في سوريا اليوم قد تكون مؤشرا على مستقبل محتمل لدول أخرى تواجه تحديات داخلية مشابهة. في هذا الإطار، يبدو أن الحفاظ على السيادة الوطنية والاستقلال السياسي أصبحا تحديين رئيسيين في عالم تُعيد فيه القوى الإقليمية والدولية رسم خريطة الشرق الأوسط بناءً على مصالحها.
وإذا كانت للغارات الأجنبية، وخاصة منها الإسرائيلية من دروس وعبر، فلن يمون سوى تعبيرا عن أن التحدي الأكبر لسوريا ما بعد الأسد يتمثل في استعادة السيادة الوطنية وتوحيد البلاد تحت قيادة قادرة على تحقيق توازن دقيق بين المصالح الداخلية والخارجية.
سوريا اليوم تقف عند مفترق طرق، وأي مسار تختاره، أو يختارونه لها، سيكون له تأثيرات عميقة ليس فقط على مستقبلها، بل على مستقبل المنطقة بأسرها.