يا أهل الثراء هبُّوا

إحسان الفقيه22 نوفمبر 2024
إحسان الفقيه

«فلتتبضّع حتى تسقط ميتا من الإنهاك»، مقولة دارجة في الولايات المتحدة الأمريكية، تعبّر عما وصل إليه الشعب الأمريكي من إغراق في النزعة الاستهلاكية، وارتباط الاستهلاك بسعادته كمصدر أساس لها.

تحوُّل المجتمع الأمريكي إلى مجتمع استهلاكي محض، كان نتاجا للنموذج الرأسمالي الليبرالي، الذي تبنته الولايات المتحدة وعملت على فرضه وتعميمه، باعتبار أنه المحطة الأخيرة لتطور الفكر البشري، وفقا لمزاعم نظرية نهاية التاريخ، التي طرحها المنظر والفيلسوف الأمريكي فوكوياما.

ومن خلال طوفان العولمة، تأثرت الدول العربية والإسلامية بهذا النموذج، ما أدى إلى تنامي النزعة الاستهلاكية في تلك المجتمعات، وغدت هناك شرائح واسعة من طبقة الأثرياء في تلك الدول تتمحور حول الاستهلاك والركض بكل اتجاه صوب الترفيه.

كثير من الأثرياء المنتمين إلى هذه الشريحة الاستهلاكية، الواقعين تحت سطوة المادية، تسقط من حساباتهم المسؤولية الاجتماعية، فينخرط المرء منهم في التخطيط لقضاء الصيف في دولة أوروبية، أو الدخول في مزادات عالمية لاقتناء لوحة، أو أثر ما لأحد المشاهير، أو ضم المزيد إلى أسطول سياراته، بينما لا يفكر مرة في إقامة مشروع خيري يستفيد منه أهل العوز والفقر، أو كفالة بعض الأيتام، أو شراء بعض الخيام للنازحين من البلدان المنكوبة يتقون بها قيظ الصيف وقسوة الشتاء.

هذه الشريحة لا تخلو منها دولة من الدول العربية والإسلامية مهما كانت درجات ثرائها أو دركات فقرها، وفي كل الأحوال يعيش أصحابها منفصلين عن واقع مجتمعاتهم، لا يلقون بالا لأزماتها الاقتصادية التي يدفع ثمنها غالبا البسطاء وحدهم. مشكلة هذه الشريحة هي نظرتهم السطحية المغلوطة للمال، وهي نتيجة نزع المال عن التصورات الإسلامية الصحيحة التي تبين حقيقة ملكيته والحقوق المتعلقة به، فهم يرون أنه نتاج خالص لسعيهم، ومن ثم لا يستحق غيرهم الانتفاع والاستمتاع به، إنها النظرة ذاتها التي تطلّع بها قارون إلى كنوزه (قال إنما أوتيته على علم عندي)، ولو أنهم قرنوا أموالهم بالوحي لأدركوا أن المال مال الله على وجه الحقيقة، يؤتيه من يشاء على وجه الاستخلاف بشروط معلومة، مِن شكر المنعم على النعمة، وأداء حقوق العباد فيه، وعندما يتحرك المرء بهذه النظرة، فإنه مِن ثَم سوف يستشعر المسؤولية الاجتماعية، ويبحث عن إفادة الناس بماله، لأنه يعلم أنه مجرد مستخلَف على المال وليس مالكا حقيقيا له. وهم مع ذلك مأسورون بالمادية الناجمة عن تمحورهم حول ذواتهم، بفعل النزعة الاستهلاكية المنتقلة إليهم بعدوى العولمة، هذا الإغراق في المادية والاستهلاك، يجرد صاحبه غالبا من مشاعر الشفقة والرأفة والرحمة بالغير، أو على الأقل يهمشها، إذ يبدو صوت هذه القيم ضعيفا خافتا أمام صخب المادية والحرص اللا محدود على الترفيه.

وفي ظل غياب العدالة في توزيع الثروات وسيطرة الأنظمة وثلة منتفعة على مقدرات البلاد، يجد أصحاب شريحة الأثرياء الغارقين في الاستهلاك في تلك الأوضاع مبررا كافيا لحصر مسارات الإنفاق على أنفسهم وذويهم، مع أن هذه الأوضاع من المفترض أن تكون باعثا قويا لاستشعارهم بالمسؤولية الاجتماعية تجاه المحتاجين المطحونين بين رحى الظلم الاجتماعي والاستئثار بثروات البلاد.

أتخيل ماذا لو تحركت رؤوس الأموال هذه في الاتجاه الصحيح، ماذا لو وجّه كل ثري من الأثرياء بعضا من ماله في عمل مشروعات خيرية ينتفع بها الناس، ماذا لو أخرجوا فقط زكاة أموالهم في مصارفها المعلومة، ماذا لو أوقفوا الأوقاف، التي يصرف ريعها في وجوه البر والإحسان إلى ذوي الحاجات. إنها ليست ثورة اشتراكية على أصحاب رؤوس الأموال، لكنها دعوة لأهل الثراء بأن يقوموا بواجباتهم تجاه غيرهم، انطلاقا من التراحم والتكافل الذي أمرنا به ديننا، فذلك خير لهم من أن يقفوا في مرمى نظرات الحقد والكراهية، التي تنبعث بشكل طبيعي من الفقراء والمحتاجين.

ولو ترك هؤلاء أنفسهم للاصطباغ بصبغة تعاليم الإسلام كما جاءت، لتغيرت نظرتهم وسلوكياتهم في الإنفاق، حين يعلمون أنه لا ينقص مال من صدقة، وأنهم بالبذل يُبارك لهم في أرزاقهم وأموالهم، وأن ما يقدمونه من أعمال خير، إنما هي زرع يحصدونه في الآخرة.

أحد أصحاب المليارات أقدم على أمر عجيب، لو لم أكن أعرفه لقلت إنها قصة من وحي الخيال، أو مقتطعة من سير الأولين، هذا الرجل قرر أن يتزوج إحدى مصابات الحروب في إحدى الدول العربية الإسلامية التي تحولت إلى بؤرة صراع مستعر، وبالفعل تزوج امرأة لم يتبق لها من أطرافها الأربعة سوى يد واحدة، وأنجب منها بنتين. يفخر هذا الرجل ويسعد بأنه قد أدخل السرور على نفس هذه المسكينة، ويقول: بنتاها سوف ترثان مالي، وتتربى كل منهما كما ربيت بقية بناتي، كم سآخذ معي للقبر؟ فلأتركها تظل تدعو لي كلما ناولتها إحدى بنتيها كأسا من ماء، ويرى هذا الثري أن ذلك خير من أن تذهب هذه المرأة إلى أوروبا كلاجئة وتعيش على معونات الأوروبيين. هذا المثال الحي المثير للدهشة، لا أعلم من أين له بهذه الروح وهذه الأخلاق وهذه القيم التي تضعه في مصاف أبطال هذه الأمة، لكن ما يهمني في الأمر هو نجاته من أسر المادية، واستشعاره المسؤولية تجاه غيره إلى الدرجة التي جعلته يقدم على أمر يعافه الرجال.

إنني لا أستنكف في هذا المقام من أن أتسول أهل الثراء لإغاثة الملهوفين والفقراء والمنكوبين، في وقت حطمت الأزمات الاقتصادية كثيرا من بلدان الأمة، واستشرى الفساد ووقع الفقراء تحت أقدام ثلة طاغية سطت على ثروات بلادهم.

يا أهل الثراء، هبّوا لإسعاد أنفسكم بتفريج كرب المكروبين وما أكثرهم، لقد حل الشتاء وما أقساه على الفقراء والمحتاجين والمشردين والنازحين، لكنه فرصة كبيرة لاستشعار إنسانيتكم وإنقاذ أنفسكم من الخواء الروحي، وقد كان من السابقين من يكسو في كل شتاء ألف جسد عار، والإمام الليث بن سعد كان يطعم الناس في فصل الشتاء الأطعمة التي تولد الطاقة في أجسادهم، والإمام مالك كان لا يفتر عن توجيه الناس في فصل الشتاء إلى الاستعانة على برده بأكل التمر والزبيب، أولئك الذين استشعروا المسؤولية تجاه الفقراء والمحتاجين، وأنقذوا أنفسهم حقا من أسر البخل والشح، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.


إحسان الفقيه | كاتبة أردنية، باحثة في التاريخ والعقائد.
اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

عاجل