كاينابريس – حسن أوريد(*)
يَعتبر كثيرٌ من المختصين لحظةَ 1948، أو قيام دولة إسرائيل بمثابة بيغ بونغ في الشرق الأوسط، غيّرت معالم المنطقة، وأجهزت على الثقافة السياسيَّة السائدة، ذات التوجّه الليبرالي، وخلخلت البنى الاجتماعية. كان من نتائج بيغ بونغ هذه سلسلة من الانقلابات العسكرية، تولّى الجيش إثرها مقاليدَ السلطة في سوريا، ومصر، ثم بعدها في العراق. ورافق ذلك عمليات القضاء على سياسيين رُموا بالتخاذل في الأردن ولبنان.
كل ما كان قبل هذا التاريخ، تهاوى جراء البيغ بونغ التي أحدثها قيام دولة إسرائيل في المنطقة. يمكن أن نعتبر الثورة الإيرانية بمثابة البيغ بونغ الثانية. غيّرت الثورة الإيرانية الثقافة السياسية، من خلال الدفع بالاتجاهات الإسلامية، وأثّرت على معالم المنطقة واللعبة بها.
من دون الثورة الإيرانية، هل كان يمكن تصوُّر غزو أفغانستان من قِبل الاتحاد السوفياتي، أو اندلاع الحرب العراقية الإيرانية؟ ألم تكن حرب أفغانستان أحد أسباب تقويض الاتحاد السوفياتي! وهل كان يمكن أن يقوم تنظيم القاعدة، من دون أفغانستان؟ مصدر كل هذه التحولات الخطيرة، الثورة الإيرانية، أو البيغ بونغ الثانية.
نحن على مشارف بيغ بونغ ثالثة، مع غزّة، ولسوف تغير معالم المنطقة والثقافة السياسية السارية بها. من السابق لأوانه أن نحيط بالتغيير في كلياته، ولكن يمكن أن نستشفّ معالمه الكبرى.
سبق لمستشار الرئيس أوباما، بن رودس، أن كتب في أعقاب انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان- في مقال له بمجلة “فورين أفّيرز”-: “إن الحرب على الإرهاب كانت حربًا بشعة”، وهي تورية للقول، إن تنميط العالم العربي والإسلامي، كان سلبيًا
أوّلها التداعيات الكبرى على إسرائيل، إذ انكسرت أسطورة “الجيش الذي لا يُقهر”، واهتزت ثقة إسرائيل بذاتها، وهي إرهاصات تحوُّل سيغير من الثقافة السياسية في إسرائيل، وفي علاقتها بذاتها، وعلاقتها بالعالم العربي.
وعلى النقيض، يستشعر الفلسطيني الثقة في النفس، بعد أن أعاد القضية الفلسطينية إلى الواجهة- رغم فداحة الخسائر في الأرواح، والبنيات- بجانب حجم التضامن الذي لقيه عالميًا.
ومن تداعيات “طوفان الأقصى” على العالم العربي، الشرخ الذي أحدثه بين “القيادات” والشعوب، في البلدان التي ترتبط بعلاقات مع إسرائيل. غزة هي حقيبة “باندورا”، كُشف غطاؤها المستور. ولذلك لن يتوقف نبض الشارع في كثير من بلدان العالم العربي، حتى مع توقف العمليات العسكرية. ولسوف تمتزج لدى الجماهير، نُصرتها للقضية الفلسطينية وقضاياها الآنية.
في المغرب، مثلًا، رفع المتظاهرون ضد مشروع “إصلاح” التعليم لافتات المؤازرة للقضية الفلسطينية، وتحلَّق المتظاهرون قبالة مبنى وزارة التربية الوطنية بالكوفيات الفلسطينية. يمكن أن تتطور الاحتجاجات من مطالب قطاعية إلى إعادة النظر في هندسة السلطة.
وهو ما انتبهت إليه السلطات الحاكمة في المغرب بسحب مشروع “الإصلاح”، لإدراكها التطورات المحتملة للاحتجاج الذي لن يتوقف عند مطالب قطاعية. ويعرف الأردن حراكًا من شأنه أن يغير من الثقافة السياسية في هذا البلد. وتسعى مصر إلى أن تضبط الشارع؛ رغم ما يموج بها من حنق. وإذا كان يمكن احتواء المد الشعبي، فإنه لا يمكن إيقافه.
أمّا على الصعيد العالمي، فقد برزت معالم توزيع جديد للأوراق. لم تعد الولايات المتحدة المستفردة بملف الشرق الأوسط، واضطرت لأن تتصل بالصين، غريمتها الإستراتيجية، كي تضغط على إيران، ليتوقف الحوثيون عن إرسال قذائفهم صوب إسرائيل، وتوقيف السفن الإسرائيلية في باب المندب. وهو تحوّل لم يكن ليحدث من دون غزة. وهو ما من شأنه أن يعزز دور الصين في المنطقة.
من معالم التحول في أوروبا، زيارة رئيس الحكومة الإسبانية للمنطقة، في مسعى لتكون إسبانيا فاعلًا في ملف الشرق الأوسط. وهو تحوُلٌّ سيكون له ما بعده، على مستوى الاتحاد الأوروبي، الذي لم يعد يتكلم لغة واحدة في القضايا الدولية.
في غمرة الطوفان، كنت في زيارة لإقليم الأندلس، بإسبانيا، ووقفت بأمّ عيني على حجم المساندة للشعب الفلسطيني بهذا الإقليم: في المظاهرات، والملصقات، وأروقة الجامعة، والأحاديث العامة. وفي الأسبوع المنصرم حللت ضيفًا على ثلاث جامعات في إيطاليا: ببولنيا، والبندقية وبيزا، والشعور العام، على مستوى الطلبة والأكاديميين مُساندٌ للشعب الفلسطيني.
ويرى كثيرون من المختصين في قضايا العالم العربي بإيطاليا، أن دور حكومتهم أدنى مما يستوجبه دور إيطاليا، ولا يستجيب لتوجهها، ويشفعون بأن لبلدهم مستقبلًا عربيًا، (كذا)، وأن لبعض غرمائهم من أوروبا ماضيًا عربيًا (كناية عن فرنسا).
الثقافة السياسية والقواعد الناظمة للعبة، والفاعلون كذلك، كلها عناصر مرشحة لأن تتغيّر في العالم العربي.
الثقافة السياسية التي كانت قائمة هي للتسوية، وقواعد اللعبة تقتضي الانغمار في “السِّلم الأميركي”، والفاعلون، هم من ارتضتهم الولايات المتحدة، وباركتهم، ومن يستجيبون لملمح خاص، يتسم بالبراغماتية و”الواقعية”، و”أعط وخذ”. كل ذلك سوف يتغير لفائدة الالتزام، والعودة لما يسميه الاقتصاديون بحقيقة الأسعار؛ أي من يمثلون توجهًا حقيقيًا.
كان ما يميز المشهد في العالم العربي- سياسيًا وثقافيًا- هو قلب الموازين، أو ما يسمى في المثل العربي: “استنسر البُغاث”، والبُغاث هو طائر صغير، استنسر، أي ظهر بمظهر النسر، نظرًا للفراغ، ولقواعد لعبة مغشوشة.
سبق لمستشار الرئيس أوباما، بن رودس، أن كتب في أعقاب انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان- في مقال له بمجلة “فورين أفّيرز”-: “إن الحرب على الإرهاب كانت حربًا بشعة”، وهي تورية للقول، إن تنميط العالم العربي والإسلامي، كان سلبيًا.
القولبة السياسية والثقافية والاقتصادية- والتي رعتها الولايات المتحدة، أكثر من عقدين- كانت سلبية، وآن الأوان للخروج من هذه البروفة، التي وعدت بالرفاه، والازدهار، وآلت إلى الخراب، والتمزّق.
كل شيء ممكن بعد الآن، إن آمنت الجماهير بالتغيير وَفق ثقافة سياسية جديدة، وإن هيأت له النخب الأسبابَ، واستطاعت أن تقرأ التحولات الدولية، وتوجهها كما يوجه الرُّبان الريح، لكي تكون مواتية لشراعه.
يمكن للبيغ بونغ الثالثة أن تكون إيجابية؛ لأن بؤرتها العالم العربي، أما الأولى والثانية، فقد جعلتا العالم العربي موضوعًا. لكن هذا لا يعفي من فرز قواعد جديدة، من لدن المعنيين، غير التي سادت وأساءت للمشهدَين: السياسي والثقافي على السواء.
(*) روائي مغربي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة محمد الخامس بالرباط.