كاينابريس – تسنيم راجح(*)
كثيراً ما نسمع نسويات مسلمات يستشهدن على أهدافهن ويبررن مسارهنّ عبر توظيف قصص متنوّعة من عصر الصحابيات رضوان الله عليهن؛ ليقلن بأنهنّ أيضًا كنّ نسويات أو ممثّلاتٍ عمليّات لبعض شعارات النسوية التي يدعون إليها، فيقال –مثلاً-: إن ردّ أمّنا عائشة رضي الله عنها لبعض الأحاديث كان خروجًا على السلطة الذكورية، وأن دفاع نسيبة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد كان كسراً للأدوار الجندرية، وأن الصحابيات طالبن بالمساواة مع الرجال، وصولاً إلى القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم ذاته كان نسوياً[1] بهدف تسويغ أسلمة النسوية ونيل موافقة الفئات الملتزمة على كل أفكارها.
وفي هذا المقال أنظر في هذا النوع من التوظيف لقصص الصحابيات بعين ناقدة ليتبين صوابه من خطئه مع التركيز على ما أظنّه أشهر نموذج منه، والمتمثل في سيرة أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها وتجارتها ونمط حياتها.
الطاهرة، الزوجة، الأم، التاجرة
ولدت أم المؤمنين خديجة بنت خويلد بن أسْد القرشيَّة في بيت عز وثراء وجاه في مكة، وكانت في الجاهلية تلقّب بالطاهرة، وقد تزوجت قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبي هالة بن زرارة التميمي الذي توفي عنها وتزوجت بعده عتيق بن عابد بن عبد الله بن عمر بن مخزوم الذي توفي عنها كذلك، وقد أنجبت منهما ثلاثة صبيان وبنتاً[2]، ولنسبها وزواجيها دورٌ في امتلاكها للثروة الكبيرة التي كانت تتاجر بها على عادة العرب، فكانت ترسل الرجال على مالها إلى الشام كل عام، وكذلك استأمنت النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وعرفت خلقه وخصوصيته عبر غلامها ميسرة، ومن ثم كان زواجها منه.
وبعد الزواج المبارك استمر عليه الصلاة والسلام بالتجارة على مالها، وأنجبت له ستة من الولد، وكان بيتهما سكناً ومودةً ورحمة مدة خمسة عشر عاماً إلى أن بعث عليه الصلاة والسلام، فكانت خديجة أول من صدّقه وآمن به وساندته بمالها وعاطفتها وجهدها، حتى إنها دخلت الحصار معه في الشعب ولاقت في سبيل دعوة الإسلام الجوع والقلة وهي ابنة الكرام ذوي العز والجاه.
تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكر خديجة أثنى عليها فأحسن الثناء، قالت: فغرت يوماً فقلت ما أكثر ما تذكرها حمراء الشدق قد أبدلك الله عز وجل بها خيراً منها، قال: ما أبدلني الله عز وجل خيراً منها قد آمنت بي إذ كفر بي الناس وصدقتني إذ كذبني الناس وواستني بمالها إذ حرمني الناس ورزقني الله عز وجل ولدها إذ حرمني أولاد النساء). [أخرجه أحمد في المسند]
فأمنا خديجة رضي الله عنها لم تكن تعرّف نفسها “سيدة أعمال” أولاً كما يُصوَّر لنا، وإن كانت بلا شك ذات مال وتجارة فهي كانت قبل ذلك الطاهرة التي تستأجر الرجال على تجارتها لتنأى بنفسها ما أمكن عن مخالطتهم والخوض بينهم، وإن تميّزت عن معظم أقرانها بعملها فإننا لا تجدها تحاضر عليهنّ حول سبق الرجال ولا عن كسر السقف الزجاجي ولا عن استعلائها عليهن بما “تساهم به للمجتمع عبر مهنتها” ببنما هنّ “عاطلات” في بيوتهن، وهي التي مع تجارتها تزوّجت وأنجبت وربّت وصبرت على أعباء النبوة التي أضاءت أنوارها من بيتها الشريف.
لقد رسمت الخطابات النسوية المسلمة صورة مشوهةً لأم المؤمنين خديجة رضي الله عنها في أذهان الفتيات كسيدة خارجة للتو من فيلم هوليوودي -وحاشاها- ببذلة رسمية ضيقة وكعب عالٍ تتجول في شركة ضخمة وتدير اجتماعات الرجال فيها ولا تكترث إلا بالأرباح والأسهم والإنتاج[3][4]، وهذا ما يخالف تماماً واقع حياتها الذي تعاملت فيه رضي الله عنها مع ظروفها بحكمة وحنكة ومهارة، وعملت وسعها لتحافظ على مالها الذي رزقها الله دون أن تخسر شيئاً من أنوثتها أو تتخلى عن حاجاتها وطبيعتها في الطريق.
الانتقائية غير البريئة!
إن الناظر في طريقة تعاطي النسويين والنسويات في الأوسط المسلمة مع محتوى تراثنا يلاحظ بوضوح كمية الانتقائية التي يمارسونها لتسويغ توجهاتهم وأسلمتها، فهم لا يحكون إلا أجزاء من القصة، ولا يأتون إلا بالأمثلة التي تخدم أهدافهم وإن أشبهت الاستثناء في سياقاتها، ثم يحاولون جعلها حالات عامة ينبغي الاقتداء بها.
فقد جعلوا السيدة خديجة “CEO” أو مديرة شركتها الضخمة بغض النظر عن بقية مكونات شخصيتها وأحداث حياتها وقلة مثيلاتها في نساء زمانها، ثم جعلوا هذه الصورة غير الدقيقة والمقتطعة من حياتها نموذجاً ينبغي على الفتاة السعي لبلوغه وإلا كانت فاشلة واقعة تحت سلطة الذكور الظالمة التي تحتاج لفعل المستحيل والتضحية برغباتها الحقيقية للخروج عنها، وبنفس الطريقة يتم الحديث بإفراط عن الصحابيات اللواتي دخلن ساحات الجهاد في أوقات الاضطرار لا للثناء على فعلهن واستخراج الفوائد من سيرهن، وإنما للقول بأن هذا الفعل الذي يحقق قيمة المساواة الدارجة اليوم هو العمل الخيّر الذي ينبغي على المسلمات في كل زمان ومكان اتباعه.
فحين يذكرون أم عمارة رضي الله عنها وجهادها في غزوة أحد –على سبيل المثال– لا يقولون بأنها حالة خاصة ونادرة بين الصحابيات، ولا يقولون بأن خروجها ذاك كان في وقت حرجٍ تهدد فيه أمة الإسلام والمسلمين، بل يجعلونها سابقة لزمانها لأنها وقفت بين الرجال ونالت شرف القتال بينهم، بينما هدفها كان الدفاع عن أمتها ونبيها، وبينما الصورة الغالبة لخروج النساء للغزوات كانت بأن يقمن على تضميد الجراح وإعانة الجيش من ورائه بالماء والغذاء.
والواقع أن ما تقوم به الخطابات النسوية الإسلامية هو إسقاطٌ لأفكار مستحدثة على الشخصيات التاريخية وإخراج للأحداث من سياقها وتحليل لمجرياتها وفق ما تراه المنظومات العلمانية خيراً وشراً وهدفاً ونجاحاً و فشلاً، بينما الشخصيات التي نتحدث عنها عاشت لقيمٍ مختلفة وعملت لأسباب مغايرة لما تريد الخطابات الحديثة إلباسها له، فالصحابيات رضوان الله عليهن علمن تماماً لماذا يعشن وإلى أين يمضين، فلم يكن سؤالهنّ إن سألن عن أعمالهن أو قارنّ نفوسهن بالرجال بحثاً عن المساواة أو الأهواء التي باتت رائجة اليوم، إنما سعياً لرضى الله ونيل الدرجات العلا عنده وتحصيل ثوابه، وهذا ما نلمسه في كلام أسماء بنت يزيد رضي الله عنها إذ أتت النبي صلى الله عليه وهو بين أصحابه فقالت: (بأبي أنت وأمي إني وافدة النساء إليك، وأعلم نفسي -لك الفداء- أنه ما من امرأة كائنة في شرق ولا غرب سمعت بمخرجي هذا إلا وهي على مثل رأيي، إن الله بعثك بالحق إلى الرجال والنساء فآمنا بك وبإلهك الذي أرسلك، وإنا معشر النساء محصورات مقصورات، قواعد بيوتكم، ومقضى شهواتكم، وحاملات أولادكم، وإنكم معاشر الرجال فضلتم علينا بالجمعة والجماعات، وعيادة المرضى، وشهود الجنائز، والحج بعد الحج، وأفضل من ذلك الجهاد في سبيل الله، وإن الرجل منكم إذا خرج حاجاً أو معتمراً أو مرابطاً حفظنا لكم أموالكم، وغزلنا لكم أثوابكم، وربينا لكم أموالكم، فما نشارككم في الأجر يا رسول الله؟
فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه بوجهه كله ثم قال: “هل سمعتم مقالة امرأة قط أحسن من مُساءلتها في أمر دينها من هذه؟ فقالوا: يا رسول الله! ما ظننا أن امرأة تهتدي إلى مثل هذا؟ فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إليها ثم قال لها: انصرفي أيتها المرأة وأعلمي من خلفك من النساء أن حسن تبعل إحداكن لزوجها، وطلبها مرضاته، واتباعها موافقته، يعدل ذلك كله. فأدبرت المرأة وهي تهلل وتكبر استبشاراً”. [أخرجه البيهقي وابن منده وابن عساكر وآخرون]
ولنتوقف ملياً هنا مع ثناء النبي على خطاب الصحابية الجليلة، ومع انصرافها نهايةً وهي تهلل وتكبر استبشاراً بقدرتها على نيل ذات الأجر، فسبحان الله ما أبعد مجتمعهم عما وقعنا فيه من ضلالات نريد إنزالها عليهم، وما أوضح الغايات في عيونهم إذ لم يريدوا شيئاً من شعارات فارغة ولا علواً في الأرض ولا فساداً.
(*) كاتبة، أخصائية بالتغذية العلاجية في سانت لويس وعضو في أكاديمية التغذية الأمريكية.
الهوامش والإحالات
[1] قال الكاتب جيم غاريسون في مقال لصحيفة Huffington Post إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أول نسوي في التاريخ.
Jim Garrison, Muhammad Was A Feminist, Huffington Post, 2017.
https://www.huffpost.com/entry/muhammad-was-a-feminist_b_12638112
[2] الإصابة، 347/8
سير أعلام النبلاء، 112/2
[3] انظر هذه المقالات لأمثلة ذلك:
أول نسوية في الإسلام: https://msmagazine.com/2010/03/16/islams-first-feminist/
الإسلام وأول نسوية: https://mg.co.za/article/2018-04-13-00-islam-and-the-first-feminists/
7 أشياء عظيمة عن خديجة: https://www.huffpost.com/entry/7-remarkable-things-about_b_7097606