سؤال التراث.. والموقف من التراث

د. سيف الدين عبد الفتاح

من المهمّ أن نحدّد ابتداءً أن قراءات التسييس، التي تتخذ طابعاً أيديولوجيا، لا بدّ أن تدفعها قراءات التأسيس، وأن القراءات الحفرية لا بدّ أن تحلّ في محلّها القراءات الإحيائية. وهناك كثير من المترتّبات من ذلك التمييز؛ بين قراءات التسييس وقراءات التأسيس، وتلك المفارقة بين القراءات الحفرية والقراءات الإحيائية، وكثيرة هي الأشكال والمظاهر التي تتجسّد فيها تلك القراءات السلبية لتحاصر القراءات التأسيسية الإحيائية الحضارية. ضمن هذه الرؤية علينا ابتداءً أن نتفحّص الموقف من التراث، ذلك أن تحديد الموقف سيؤثّر لزوماً في سؤال التراث، وكيف يكون منتجاً لا عائقاً.

يتمثّل أول تلك المواقف في انزواء التراث؛ قد لا نتحدّث هنا عن اتجاه يستبعد التراث أو ينفيه لأسباب تتعلّق بالنظرة إليه، أو بتملّك نظرة دونية لذلك التراث أو قضاياه أو طرائقه، وإنما نتحدّث عن واقع يتبدّل وينساب ويتراكم، قد يجعل هذا التراث غير ذي معنى أو مغزى أو جدوى، يرى في ذلك التراث أن الزمن قد تجاوزه وأن “العطّار لا يصلح ما أفسده الدهر”، ومن هنا يبدو لنا أن الوقوف عند شواطئ القراءة المتخفيّة بغرض إحيائه، ليست إلا كتابة شهادة وفاته، والحديث عن بعض تركة المُتوفّى أو بعض آثاره؛ ولكنّ الأمر هنا يتعلّق في حقيقة الأمر بعمل متّصل يجعل من حضور التراث دافعاً لا مانعاً، رافعاً لا مُيَئّساً أو خاذلاً، حقيقياً لا مُفتعلاً أو مُتعسّفاً، الحضور التراثي ليس إقحاماً، ولكنّه إسهام في التفسير والتدبير على حدّ سواء، وهو يعني أن البحث في الإشكالات الواقعية هو أولى الخطوات التي لا تجعل من استبعاد التراث أمراً واقعاً مفروضاً، ليس في حاجة لنظرات التجنّي أو الرؤى الدونية. بل هو أمر أقرب ما يكون إلى منطق دَعُوه “يموت، ونخلص منّه”؛ بحيث يتجاوزه الواقع بمُعطياته ومُتغيّراته ومُستجدّاته كلّها.

من هنا يصير الحديث وفق اللغة التراثية وشيفراتها ضرباً من استعراض بعض الفِكَر المحنّطة الدالّة على زمنها، أو البحث “عن” (وليس “في”) الحفريات التراثية. فينزوي التراث، وربّما يتوارى، ونحن نؤكّد أنّنا نحييه أو ننشره، وهو في واقع الأمر تراث تجاوزه الزمان والعصر والواقع، من غير ذلك “الوصل” و”التواصل” (وصل بالواقع وتواصل بالبحث والدراسة) مع التراث، لن تكون هناك مكنة “الاتصال” بالتراث، وتصير القطيعة مع التراث ليس مجرّد موقف فكري، بل حالة واقعية، يصعب (وربّما يستحيل) الانفكاك من أسرها أو الانعتاق من تصوّراتها ومآلاتها، ويجعل المهتمّين بالتراث في وضع لا يحسدون عليه، فكيف يمكننا أن نحقّق “الوصل” و”التواصل” و”الاتصال” و”الوصول” التراثي، من خلال فهم الإشكالات تعريفاً وتوصيفاً وتصنيفاً وتوظيفاً.

النزعة الافتخارية في قراءة التراث تصادر الحاضر والمستقبل لمصلحة فهم مبتسر للماضي، ومختزل للتاريخ والتراث

ويتعلّق ثانيها بالنزعة الافتخارية في قراءة التراث، التي تضرّ أكثر ممّا تنفع، لأنها تصادر الحاضر والمستقبل لمصلحة فهم مبتسر للماضي ومختزل للتاريخ والتراث. ليس من هدف القراءة التراثية أن نتبنّى (أو نتغنّى بـ) “الأمجاد التراثية” في صفحات تراث المسلمين، وتصاحب ذلك قراءة التجنّي لإسهامات الآخر وفاعلياته، والتهوين من شأنها أو البحث عن سلبياتها، اعتقاداً أن ذلك ممّا يرفع مكانة الذات، وهو أمر ربّما يشير إلى وهم المكانة مرّة حينما تلوذ بالتاريخ الذهبي وأمجاد الماضي، ومرّة أخرى حينما نعتقد في قرارة أنفسنا أن علوَّ مكانة الذات يكون بالنيل من قيمة الآخرين وعناصر إسهامهم الحضاري، وتظلّ قراءتنا للتراث تدور حول قراءات التبنّي أو التغنّي أو التجنّي، قراءات بعضها من بعض لا تُورث وعياً ولا تُحرّك فهماً ولا تقتضى سعياً، إنما هي محاولة الامتلاء بالنزعة الافتخارية هروباً من واقعنا الأليم.

ثالث تلك المواقف قراءات الدفاع والاندفاع، الغافلة عن قراءة التدافع ووعي السنن والسعي من خلالها؛ قراءات شاعت أيضاً في دائرة البحث بقضايا تراثية عدّة قراءات سمتها المنهج الدفاعي تارة بالافتخار وتارة بالاعتذار، وتارة بالتبرير، تعبّر كلّها عن استخدام المادّة التراثية ضمن أنماط تفكير ومناهج تدبير، لا تُغني ولا تُسمن من جوع، إنها بالجملة تراجع للفكر الدفاعي، الذي يُراوح في المكان والزمان، يجترّ القضايا القديمة والمعارك السابقة، ويحييها من غير ميدان، بينما يترك الإشكالات الحقيقية في أرض الواقع تعبّر عن حالة من الوهن لا يُجدى فيها افتخار أو اعتذار، أو تبرير. تتساند مع ذلك قراءة انفعالية اندفاعية تقرّر وتعمّم وتتّخذ المواقف من غير إعداد أو عدّة، تتراوح بين الدفاع والانتقال من مواقع الفكر الدفاعي، والاندفاع تارة بالتبرير، وأخرى بالاعتذار، تأتي أنماط من القراءات التي لا تُجدى فتيلاً في عالم التراث. في مواجهة هذه القراءات الدفاعية والاندفاعية قائمة على قاعدة من وعي وسعي السنن القاضية، لتعبّر عن معاني البحث في عمق الداخل “قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ” (آل عمران: 165)، وتتعرّف إلى مدى معادلة التدافع “ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ” (فصّلت: 34)، ومعادلة التغيير “إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (الرعد: 11)، ومعادلة الخروج من حال الوهن والأزمة “وَلَوْ أَرَادُواْ ٱلْخُرُوجَ لَأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً” (التوبة: 46).

رابعها تلك المسكونة بالتحيّز الناقل والقافل للتراث بصورة تلقائية لا العودة بصورة اجتهادية واعية ومبصرة. ذلك أن الصورة الأولى إنّما تقوم على مصادرة الآني والواقع لمصلحة الماضي، والعكس حينما يُصادَر التراث جملةً باسم الواقع وإملاءاته، وتصير المناجزة في فهم التراث الإسلامي ضمن حوادث آنية، تهاجم كلّ صنوف التراث القديم، بدعوى استخدام مفاهيمه وشيفراته، تراث الجهاد وأفعال التحرير والمقاومة، وجب وفق التصورات الآنية أن نهيل عليه التراب، فإذا لم نستطع أن ندفعه فعلينا أن نخفيه، أن نبقى عليه على “هون” أو ندسّه في التراب. وكذلك، فنحن ضدّ التحيّز القافل، الذي يستدعي محاكمة كلّ حدث من خلال فتاوى سابقة لأحداث اعتبرناها مشابهةً أو مماثلةً، واستدعينا الحدث لمسار الفقه، وأدخلناه ضمن ماكينة الفتاوى لإضفاء شرعية على ممارسةٍ هنا أو اختيار هناك أو قرار مفضّل أو موقف مرغوب، الذي قد يسمح لبعضهم بمصادرة تعقيدات الواقع كلّها لمصلحة فتاوى مختزلةٍ ضمن لغة تحاكي فتاوى سابقة، ربّما لحوادث يظنّها بعضهم متشابهة، من دون فهم عناصر جديدة ومتجدّدة في الواقع يستحيل معها هذا الاستدعاء التلقائي من دون فهم تنوّعات الواقع كلّها، ومتغيّراته وتشابكاته.

هذه بعض الظواهر المتعلّقة بتلك القراءات السلبية (التسييسية والحفرية)، التي توضّح إلى أيّ مدىً يمكن أن تُحدِث آثاراً سلبية في مناهج التفكير، وأساليب التدبير، وأصول التغيير. هذه الظواهر تحيلنا إلى الدواعي البحثية في دراسة وفحص الإشكالات التي نحن بصددها، ليكون ذلك وفق تلك الضرورات البحثية، ما يزكّي القراءات التأسيسية والإحيائية. إننا بحقّ في حاجة إلى التعرّف على التراث ضمن مجموعة من الدواعي والضرورات البحثية، وضمن دراسات مهمّة تستوعب هذه العناصر كلّها. ومن أهم القضايا التي وجب التعرّض لها: التعريف وإشكالاته، والتوصيف وامتداداته، والتصنيف وتعقيداته، والتوظيف ومتطلّباته. هذه الدواعي تقتضي منّا التعامل مع الحالة التراثية، ونسب التراث وتنسيبه وتسكينه، والحالة التداولية للتراث (كيف نتداوله ونتعامل معه ونتناول قضاياه)، وما تعكسه البيئة المحيطة بالتداول التراثي من ضغط الماضي والحاضر والمستقبل، وكذلك مساءلة التراث مراجعةً ونقداً وخروجاً من حالتَي التربّص والاتهام، وتبدو لنا في النهاية أشكال القصور في النظر لوظيفة التراث ودوره وأثره في التعامل مع الأمّة وقضاياها، ذاكراتها وهُويَّتها، وضمن سياقات توظيفه وتشغيله ضمن متطلّبات واقعية، توطّن النظرة الإيجابية للتراث من دون أن تصادر عمليةً نقديةً واسعةً في مواجهة النظرة السلبية للتراث.


د. سيف الدين عبد الفتاح | أستاذ العلوم السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة
اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

عاجل