كاينابريس – د. سعيد الحاج(*)
في اليوم الـ247 للعدوان على قطاع غزّة، أعلنت حكومة الاحتلال عن تحرير أربعة أسرى كانوا لدى المقاومة الفلسطينية في عملية ذهب ضحيتها مئات الشهداء والجرحى في مخيم النصيرات، وسط قطاع غزة في واحدة من أبشع المجازر التي ارتكبها الاحتلال في عدوانه الحالي.
المجزرة
فقد أعلنت وزارة الصحة الفلسطينية عن استشهاد 274، وإصابة 698 شخصًا، بعضهم في حالة حرجة جراء المجزرة التي ارتكبتها قوات الاحتلال في مخيم النصيرات خلال عملية تحرير بعض أسراها الذين كانوا بيد كتائب القسام الجناح العسكري لحركة حماس.
العملية هي الأولى من نوعها، إذ فشل الاحتلال في كل محاولاته السابقة لإنقاذ أسراه من يد المقاومة الفلسطينية على مدى أكثر من ثمانية أشهر من العدوان المتواصل، والذي لم يعرف حدودًا أو قيودًا فيما يتعلق بالأدوات المستخدمة والجرائم المرتكبة.
فرحة لم تدم طويلًا، فبعد يوم واحد من الاحتفال والابتهاج المبالغ فيه بتحرير الأسرى الأربعة، تلقى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو صفعة قوية بإعلان بيني غانتس، وغادي آيزنكوت الوزيرين في حكومة الحرب استقالتهما من الحكومة.
غانتس وصف قراره بأنه “معقد، ومؤلم، واتخذ بقلب مثقل”، وخاطب عائلات المحتجزين الإسرائيليين في غزة قائلًا: “أخفقنا في الامتحان، ولم نتمكن من إعادة أبنائكم”.
لخصت عبارات غانتس نتيجة 9 أشهر من الحرب على غزة، والتي كانت محصلتُها حتى الآن فشلًا تامًا وذريعًا في تحقيق أهداف الحرب، وعلى رأسها إعادة الأسرى والمحتجزين.
بدوره، يحاول نتنياهو جاهدًا التغطية على هذا الفشل عبر تضخيم أثر استعادة الأسرى الأربعة وتسويقه على أنه انتصار كبير، لترد عليه المقاومة بفشل آخر يسجل في رصيده، وهو إعلان كتائب القسام -الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)- عن مقتل 3 من الأسرى المحتجزين في قطاع غزة خلال عملية جيش الاحتلال التي نفذها في قلب مخيم النصيرات وسط القطاع، أحدهم يحمل الجنسية الأميركية.
الناطق الإعلامي باسم كتائب القسام “أبو عبيدة” كان قد تحدى الاحتلال أكثر من مرة أن يستطيع “الحصول على أسراه أحياء” إلا من خلال اتفاق لوقف إطلاق النار يتخلله تبادل للأسرى.
وباستثناء إعلان الاحتلال في فبراير/ شباط الماضي عن تحريره أسيرين اتضح لاحقًا أنهما كانا محتجزين لدى مدنيين وليس المقاومة الفلسطينية، فقد فشل جيش الاحتلال فعلًا في استنقاذ أي أسير حي من يد المقاومة، وخصوصًا القسام. وقد زاد ذلك من مستوى الضغوط الداخلية والخارجية على نتنياهو وحكومته بعد أن تأكد مرارًا تهافت ادعائه بأن الضغط العسكري المتواصل هو القادر على تخليص الأسرى، وتاليًا وقف الحرب.
في العملية الأخيرة، وفي سبيل تحرير أربعة أسرى إثر هجوم لم تتضح كافة تفاصيله بعد، قتلت قوات الاحتلال وأصابت ما يربو على ألف شخص في مخيم النصيرات في وضح النهار، فيما بدا فعلًا مقصودًا منها على ما قال شهود عيان أكدوا أن قوات الاحتلال بادرت بإطلاق النار بشكل مباشر وعشوائي وقاتل، فضلًا عن القصف الجوي غير المسبوق في إطار الأحزمة النارية التي استخدمتها لتشتيت جهود المقاومة ودفع الناس بعيدًا عن مكان العمليّة.
وكان من أكثر النقاط المثيرة للجدل بخصوص العملية مدى المشاركة الأميركية فيها. إذ رغم تأكيد القيادة الأميركية الوسطى (سنتكوم) أن الرصيف البحري “لم يستخدم في عملية الجيش الإسرائيلي لاستعادة المحتجزين في غزة” وأن الأخير استخدم المنطقة الواقعة إلى الجنوب من الرصيف، فإن الإعلام العبري نقل عن مصادر حكومية أن القوات الأميركية شاركت في عملية استعادة الأسرى.
كما أوردت وسائل الإعلام الأميركية معلومات إضافية، حيث نقلت “سي إن إن” عن مسؤول أن “قوات أميركية شاركت” في الهجوم الذي أدّى لتحرير الأسرى، و”نيويورك تايمز” عن مسؤول أميركي أن فريقًا من المسؤولين عن استعادة الرهائن الأميركيين “ساعد الجيش الإسرائيلي من خلال توفير المعلومات الاستخبارية والدعم اللوجيستي”، فضلًا عن الترحيب الأميركي الرسمي بالعملية في تجاهل تام للمجزرة المرتكبة في حق المدنيين.
أثر محدود
استقالة غانتس وآيزنكوت شكلت ضربة لنتنياهو أفقدته ذلك الأثر المحدود الذي حصل عليه بعد تحرير الأسرى، مع توقع ازدياد زخم الاحتجاجات في الشارع الإسرائيلي والدعوة إلى انتخابات في أسرع وقت.
ورغم ما تمثله هذه الاستقالة من ضربة، فيمكن القول إن نتنياهو سيسعى لتثبيت حكومته بغض النظر عن استقالة غانتس وآيزنكوت، وسيحاول التأكيد أن استعادة الأسرى من خلال الضغط العسكري الدامي حصرًا ممكنة، وأن العملية المذكورة ليست إلا باكورة عمليات إضافية قادمة.
وعليه، قد يكون من المنطقي توقع مماطلة نتنياهو وتعنته أكثر في مفاوضات وقف إطلاق النار وإصراره على استمرار العدوان من باب الجدوى والفاعلية وتراجع الضغوط عليه من الداخل “الإسرائيلي” والولايات المتحدة الأميركية على حد سواء، لا سيما بعد ردود الفعل الغربية الأولية على العملية، وفي مقدمتها التصريحات الأميركية والألمانية التي رحبت بتحرير الأسرى متجاهلة تمامًا ذكر (فضلًا عن نقد) المذبحة التي نفذتها قوات الاحتلال في المدنيين، والتي حمّلت حماس وحدها مسؤولية عدم التوصل للاتفاق.
يفسّر كل ذلك احتفاء نتنياهو ومعسكره بالعملية والمبالغة الواضحة في تقييم دلالاتها وآثارها على الحرب في المدى البعيد. لكننا نرى أن أثر العملية على مسار الحرب عمومًا وعلى مآلات ملف التفاوض محدودة ومؤقتة وسياقية إلى حد بعيد.
فمن جهة، لا يمكن تقييم العملية بشكل منبتٍّ عن توقيتها، إذ أتت “أول عملية تحرير ناجحة” بعد أكثر من ثمانية أشهر من الحرب، وبعد محاولات عديدة باء بعضها بالفشل ومقتل الأسرى، بل وتخلل ذلك قدرة المقاومة على إضافة أسرى جدد لقائمتها كما حصل في عملية جباليا مثلًا.
كما أنه لا يمكن تقييم العملية بدون ذكر المخاطرة الكبيرة التي اكتنفتها والثمن الذي دفع فيها مقابل محاولة تحرير الأسرى. ولسنا نتحدث فقط عن العدد الكبير من الشهداء الفلسطينيين الذين لا يبدو مهمًا في نظر الاحتلال، بل ربما كان مقصودًا لذاته، بل عن الخسائر في القوة التي نفذت العملية والأسرى الذين حرروا، وغيرهم. ففيما يتعلق بالقوات، أعلن جيش الاحتلال عن مقتل ضابط كبير وجرح عدد من الجنود خلال تنفيذ العملية، وفيما يخص الثانية ذكر تصريح لـ “أبي عبيدة” أن جيش الاحتلال “خلال تحريره بعض أسراه تسبب بمقتل بعضهم”، وهما فاتورتان مفتوحتان على الزيادة في قابل الأيام، وحين تعرف تفاصيل إضافية.
الأهم، أن عملية من هذا النوع لا تتكرر كل يوم بالنظر لما تحتاجه من متابعة ومعلومات وفرص سانحة وتخطيط وتنفيذ مع المخاطرة الكبيرة، فضلًا عن أن فرص نجاحها ليست مرتفعة أصلًا في ظل الأوضاع القائمة في القطاع. وإذا ما تخطينا كل ذلك وافترضنا أنها عملية قابلة للتكرار بنفس الوتيرة فسنكون أمام إطار زمني يمتد على سنوات لإخراج كل الأسرى من قبضة المقاومة الفلسطينية، التي من البديهي أنها ستدرس ما حصل، وتستخلص دروسه وتتخذ الإجراءات المطلوبة لكيلا يتكرر.
ردات فعل
لذلك، ورغم نجاحها في الإطار الفني العملياتي، تبقى العملية استثناء لا يتكرر بسهولة وسرعة، ولذلك فإن تأثيرها على المقاومة من جهة، وعلى مسار الحرب وملف التفاوض من جهة أخرى، يبقى محدودًا جدًا وأقرب للتأثير الظرفي المؤقت، وهو أمر تدركه حكومة الاحتلال نفسها، وهي في غمرة النشوة ومحاولات التوظيف السياسي للعمليّة.
وإذا ما كانت هذه قناعات حكومة الاحتلال نفسها فإن تقييم الأطراف الأخرى ومواقفها أكثر وضوحًا باتجاه محدودية العملية في مسار الحرب، والأهم في إطار المساعي لتحرير باقي الأسرى الذين يعدّون بالعشرات. ولا بد من الإشارة إلى أن ردات الفعل الناقدة للمبالغة في تقييم العملية ظهرت للعلن أسرع بكثير مما توقعنا حتى.
فعلى عكس ما قد يتوقع كثيرون، لم تبدِ المظاهرة الدورية لعائلات الأسرى – في يوم تنفيذ العملية – تأييدًا للحكومة أو تفويضًا لها، وإنما ركزت على فكرة ” تحرير البقية بصفقة”. كما أن تصريحات الشخصيات السياسية والعسكرية كانت أكثر وضوحًا ومباشرة.
فمقابل تصريح وزير الخارجية “الإسرائيلي” يسرائيل كاتس بأن “الضغط العسكري وحده واستمراره سيقودان لتحقيق صفقة لإعادة المحتجزين”، نقل الإعلام العبري تصريحات بالاتجاه المعاكس تمامًا. فقال رئيس مجلس الأمن القومي “الإسرائيلي” السابق غيورا إيلاند: إن العملية “مهمة للمعنويات الوطنية” إلا أنها “لن تغير الوضع العام”، داعيًا لصفقة تشمل وقف الحرب. كما قلل رئيس حزب العمل يائير غولان من نتائجها داعيًا “للتحقق من الواقع بعد النشوة” ومذكّرًا بأنه “ما زال هناك 120 مختطفًا ومختطفة.. بينما الجيش يتعثر في غزة، وتتآكل إنجازاته العسكرية”.
كما نقلت صحيفة “معاريف” عن الرئيس السابق لشعبة العمليات في جيش الاحتلال يسرائيل زيف قوله: إن “الصفقة وحدها هي التي يمكنها إعادة المحتجزين”، ووصف زعيم المعارضة يائير لبيد –بعد العملية– حكومة نتنياهو بالفاشلة، داعيًا غانتس للانسحاب منها، إذ “ليس لديها أهداف سياسية معروفة لا في غزة ولا في لبنان”.
وفي الخلاصة، فإنّ تداعيات العملية ليست كبيرة على مسار الحرب أو التفاوض، وقد بدأت سريعًا ردات الفعل “الإسرائيلية” الداعية لعدم المبالغة في تقييمها والاعتماد على أمثالها مستقبلًا في تحرير باقي الأسرى.
فلسطينيًا وعربيًا، ينبغي التركيز على المجزرة المرتكبة بحقّ المدنيين وضرورة مطالبة جميع الأطراف العربية والإقليمية والدولية للاضطلاع بمسؤولياتها ووقف العدوان ومحاسبة الاحتلال، لمنع تكرارها، وعدم الاستسلام للبروباغندا “الإسرائيلية” التي تحاول تصوير الأمر على أنه نقطة تحوّل وفشل كبير للمقاومة، على عكس الواقع الماثل أمام الجميع.
(*) طبيب وباحث فلسطيني