كاينابريس – متابعات
الإجراءات والقرارات الفرنسية العنيفة المناهضة للإسلام والمسلمين طرحت تساؤلات كثيرة عن دوافعها والأسباب التي تقف وراءها، ففي حين تقول الحكومة الفرنسية والساسة في اليمين واليسار إن الهدف منها حماية النظام العلماني القائم منذ أن تم تقنين العلاقة بين الدين والدولة سنة 1905، إلا أن نظرة على تاريخ فرنسا تكشف غير ذلك.
وخلال السنوات الماضية، اتخذت فرنسا سلسلة من الإجراءات والقرارات المناهضة للمسلمين في وقت كانت فيه أوروبا والغرب عموما تحاول استيعاب المسلمين ودمجهم رغم تصاعد المد العنصري بشكل كبير في عموم هذه القارة بعد موجة اللجوء الناجمة عن الاضطرابات والحروب في الشرق الأوسط وأفغانستان وأفريقيا.
وكانت المبررات الفرنسية دائما هي حماية النظام العلماني القائم على مبدأ فصل الدين عن الدولة. وفي الوقت نفسه ينفي السياسيون الفرنسيون وجود أي توجهات مسبقة معادية للمسلمين.
ولكن بالنظر لحجم وعمق هذه العداوة، فمن الواضح أن القصة أكبر من ذلك بكثير، وهو ما يطرح سؤالا مهما: هل فعلا تحمل فرنسا لواء العداء للإسلام وهل فعلا سبب ذلك دفاعها عن نظامها السياسي العلماني الذي يقوم على أن كل شيء مسخر لحماية الدولة؟
فقد كانت الهجمات على القيم الإسلامية توجها مقبولا للخطاب السياسي الفرنسي، خاصة بعد تحول المفاهيم العلمانية واندفاعها من اليسار نحو الجناح اليميني بشكل تدريجي -على مدى عدة عقود- ليصبح الإسلام منذئذ العدو الأول لليسار واليمين على حد سواء.
وفي عهد الرئيس نيكولا ساركوزي، صيغت السياسات المعادية للمسلمين على أنها دفاع عن العلمانية. كما رسم وقوف الحكومة الفرنسية ودعمها للرسوم المسيئة للنبي صلى الله عليه وسلم، بذريعة حرية التعبير، خطا واضحا في العداء الفرنسي للإسلام.
وبعد مقتل المعلم صموئيل باتي في 16 أكتوبر 2020، على يد أحد المتعاطفين مع تنظيم الدولة الإسلامية إثر عرض باتي على تلاميذ مدرسته رسوما كاريكاتيرية مسيئة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، برز تبنى الرئيس الفرنسي الحالي إيمانويل ماكرون لمضمون مماثل لبرنامج ساركوزي، وشن حملة قمع على منظمات المجتمع المدني الإسلامية.
“قيم الجمهورية”
وتحت لافتة “مكافحة النزعة الانفصالية”، فيما عرف بـ”قانون تعزيز قيم الجمهورية” حرك ماكرون إجراءات قاسية ضد المسلمين شملت مراقبة المساجد وإغلاق المدارس غير المسجلة وإرغام الأئمة على توقيع قسم الولاء. كما منحت سلطات تنفيذ القانون سلطة أكبر للتدخل في الجمعيات الدينية والحد من التمويل الأجنبي بدعوى مواجهة ما يسمونه “التطرف” الإسلامي. والقانون الجديد الذي أقره البرلمان في 23 يوليوز 2021، يعاقب من يُدان بجريمة “الانفصالية” بالسجن 5 سنوات وبغرامات تصل لنحو 90 ألف دولار.
وفي ظل تلك الموجة، نشر أكثر من ألف من العسكريين الفرنسيين الحاليين والمتقاعدين رسالة مفتوحة في ماي 2021، تحذر من انهيار الجمهورية، وتهديد ما سموه “الخطر الإسلامي” المتنامي للمبادئ العلمانية.
من جهته، ينتقد ماكرون الإسلام في كثير من المناسبات، بل واتهمه بأنه يعيش أزمة في كل دول العالم. وعلى ذلك كان الخط السياسي لحكومة ماكرون هو مناهضة كل ما هو إسلامي، وتتماهى بعض وسائل الإعلام الفرنسية مع ذلك عبر شيطنة المسلمين حسب ما يرى كثير من المحللين.
وفي رمضان 2023، فجّرت الحكومة الفرنسية أزمة مع المسلمين عندما طلبت بصورة سرية، من بعض إدارات التعليم، تزويدها بعدد الطلاب المسلمين الذين تغيبوا يوم عيد الفطر. وهي خطوة اعتبرتها الجالية المسلمة إجراء عنصريا ضدها لأنها لا تستند إلى أي قانون.
والآن، وبمناسبة العودة إلى المدارس، يقود وزير التربية الوطنية الفرنسي غابرييل أتال حملة لحظر ارتداء الحجاب، بدعوى توحيد المظهر حتى لا يتم التعرف إلى ديانة الطالب من زيه.
وعداء فرنسا وتجريمها للإسلام تنظر إليه الجالية المسلمة بأنه تنكر وعدم احترام لأكثر من 6 ملايين مواطن مسلم في هذه البلاد، عاش أجدادهم عقودا تحت استعمار فرنسي عنيف احتل أوطانهم وجندهم لمصالحه مثلما يفعل اليوم مع الأبناء لجلب الانتصارات الرياضية.
كيف بدأ الصراع بين فرنسا والمسلمين؟
بدأ العداء الفرنسي للإسلام منذ فتح المسلمين الأندلس، وهي إسبانيا والبرتغال حاليا تحت قيادة طارق بن زياد وموسى بن نصير. وبدأ المسلمون محاولات للتقدم لفتح فرنسا التي كان يطلق عليها بلاد الفرنجة أو الغال أو غالا.
وتقدمت الجيوش الإسلامية حتى وصلت تخوم باريس، بيد أن ملك فرنسا شارل مارتل حشد نحو 400 ألف مقاتل فرنسي وأوروبي، واستطاع هزيمة جيش عبد الرحمن الغافقي الذي أرسلته الدولة الأموية في معركة بلاط الشهداء -أو بواتيه- عام 732 ميلادية التي ينظر إليها الأوروبيون والفرنسيون على أنها أنقذتهم من الخطر الإسلامي.
كما أصبغت روح القداسة على الملك الفرنسي شارل مارتل الذي اعتبر بطلا أوروبيا عظيما ومسيحيا فذا أنقذ أوروبا من الإسلام.
ومنذ معركة بلاط الشهداء، تولد عداء قوي ضد الإسلام، وأصبحت فرنسا بعدها وحتى اليوم رأس حربة في معاداة الإسلام والمسلمين، ولا تزال الروح الصليبية في أوروبا تدين لفرنسا بالفضل في وقف المد الإسلامي.
ويرى بعض المؤرخين الغربيين، ومنهم الفرنسي غوستاف لوبون في كتابه “حضارة العرب”، أن الأوروبيين بالغوا في تضخيم الدور الفرنسي في وقف المد الإسلامي، بل يعتبر أن دخول الإسلام باريس “المتخلفة” كان سيجعل منها مكانا متحضرا مثل الأندلس المزدهرة تحت راية المسلمين.
ويرى الباحث المصري محمد إلهامي أن تمدد الفتوحات الأندلسية -عبر حدود فرنسا الجنوبية وشمال إيطاليا- ساهم في دخول الإسلام وبقائه جنوب فرنسا ما يقارب 3 قرون.
كما كان لدولة إسلامية تسمى “جبل القلال” عاشت 100 عام تقريبا بمنطقة سان تروبيه في الجنوب الشرقي لفرنسا، وامتدت حتى سويسرا شمالا، أثر كبير في ترسيخ الوجود الإسلامي في قلب القارة الأوروبية.
وقد عكست “أنشودة رولان” -التي توصف بأنها أقدم نصوص الملاحم الشعبية الفرنسية- نظرة العداء والازدراء للمسلمين في المخيلة الفرنسية خلال القرون الوسطى.
وتحكي الأنشودة -المكونة من آلاف الأبيات ويعتقد أنها كتبت نهاية القرن الـ11 بالفرنسية القديمة- قصة رولان الذي قام بحماية مؤخرة جيش الملك شارلمان (حفيد الملك شارل مارتل) أثناء عبوره جبال البرانس بين فرنسا وإسبانيا، وتنتهي القصة بمقتله على يد المسلمين والباسكيين.
مرحلة الاستشراق
بدأت حركة الاستشراق الأوروبية والغربية على يد الفرنسي سلفستر الثاني الذي نهل من علوم العرب في قرطبة وإشبيلية وفاس، قبل أن يعود لفرنسا ليجلس على كرسي البابوية في روما، ومن ثم ينقلها لمدينة أفينون الفرنسية عام 1308 ميلادية. ويعود إليه الفضل في التوصية بتعليم وتدريس اللغة والعلوم العربية، كما أسس مدرستين في روما مقر البابوية، وأخرى بمسقط رأسه مدينة ريميس الفرنسية.
لذلك، يمكن القول إن حركة الاستشراق انطلقت من فرنسا قبل أن تنتقل لبقية الدول الأوروبية.
كذلك أنشئت أول المعاهد لتدريس العربية واللغات الشرقية على يد البابا الفرنسي هونيروس الرابع، وذلك قبل انطلاق الاستشراق رسميا بربع قرن من مجمع فيين الكنسي عام 1311- 1312 ميلادية. وكان أول مدير له فرنسي أيضا وهو البابا كليمنت الخامس.
وكان قادة الاستشراق بداية عصر الهيمنة الاستعمارية أواخر القرن الـ18 وأوائل القرن الـ19 فرنسيين، إذ تولى عمادة الاستشراق الأوروبي من يسمونه شيخ المستشرقين الفرنسيين سلفستر دي ساسي، مدير المعهد الوطني للغات الشرقية، الذي تخرج على يديه عمالقة الاستشراق الغربي مما جعل فرنسا مرة أخرى في مقدمة من يخدم أوروبا المسيحية.
وعندما بدأت الحملات الاستعمارية في القرن الـ16 وضعفت الدولة العثمانية، ازدهرت ظاهرة الاستشراق بقيادة الفرنسيين، للتغلغل في المجتمعات الإسلامية إما تحت غطاء التجارة أو الدراسة.
وتم توظيف الاستشراق ليكون ذراعا للحملات الاستعمارية، يمدها بالتقارير عن الشعوب المستهدفة، مما سهل كثيرا مهمات تلك الحملات.
الحروب الصليبية
الحروب الصليبية -التي شنها الأوروبيون على العالم الاسلامي أواخر القرن الـ11 وحتى الثلث الأخير من القرن الـ13، تعتبر الحدث التاريخي الذي أعطى لأوروبا هويتها وتماسكها بعد حقب طويلة من الحروب الطاحنة.
فقد تقدم الفرنسيون الصفوف عندما أعلن البابا أوربان الثاني انطلاق هذه الحروب من مدينة كليرمونت الفرنسية عام 1095 ميلادية. كما كان أغلب جنود وأمراء الحروب الصليبية وقوتها الضاربة ونواتها الصلبة من الفرنسيين، حتى إن المسلمين كانوا يسمونها حروب الفرنجة وهو الاسم الذي يطلق على فرنسا.
كذلك شكل الفرنسيون حضورا قويا في أروقة الحركات الدينية الصليبية مثل فرسان الهيكل.
وعليه يمكن القول إن الإجراءات والقرارات الفرنسية ضد الإسلام هي امتداد تاريخي لهذا العداء، رغم التحولات السياسية والاجتماعية التي حدثت في أوروبا.
وفي الداخل، لم تتغير فرنسا القديمة اجتماعيا وثقافيا واقتصاديا رغم ظهور انقسامات اجتماعية خطيرة كان آخرها العنف والحرائق والمواجهات الدامية التي أعقبت مقتل الفتى المسلم نائل ذي الأصول الجزائرية في يوليوز الماضي، كما تعيش ضواحي المدن حالة غبن شديد عبرت عن نفسها في أكثر من مناسبة.
أما خارجيا، فإن فرنسا تواجه مشكلات كبيرة وتفقد نفوذها في الكثير من الدول بسبب ما يصفه منتقدوها بسلوكها الاستعماري.
فقد خسرت باريس وجودها في عدة دول أفريقية مثل مالي وبوركينا فاسو والنيجر والغابون، بعد انقلابات عسكرية في هذه الدول.
(الجزيرة نت)